ما الذي ينتظر البشرية: نظام بديل أم عصر جديد

عدم الانتماء إلى العصر القديم دليل على أنّ هناك شيئًا ما بدأ يتغير وأن العمل جارٍ على بناء عالمٍ جديدٍ ينتظر تحديد صانعيه.
السبت 2024/09/28
حسابات التداعيات

قال بابا روما السابق بنديكتوس السادس عشر عام 2016 “لم أعد أنتمي إلى العصر القديم، لكن العصر الجديد لم يبدأ بعد”، بحسب ما ذكرته صحيفة لوبوان الباريسية.

ما قاله قداسته قد تكون له دلالات روحية مرتبطة بالإيمان، ولكن المؤكد أن قوله هذا يطرح النظرة المستقبلية لما ستكون عليه البشرية من تغييرات وسط “خربطات” تشهدها الأسس التي بُني عليها النظام الحالي، في سبيل إعادة ترتيبها من جديد. فالدخول إلى نظام جديد يكون فقط بقلب النظام العالمي من قطب غربي أحادي إلى آخر متعدّد الأقطاب، ولكن هل ينطبق هذا على العصر الجديد الذي تحدّث عنه البابا بنديكتوس؟

قال البابا هذا في العام 2016، عندما كانت الهيمنة الأميركية على العالم لم تزل متجلية بأبهى صورتها، وكانت البشرية مأخوذة بما ذكره الكاتب الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الليبرالي الأخير”؛ إذ لم تكن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا لنظيره الصيني شي جينبينغ جرأة المجاهرة بمخططهما الهادف إلى استبدال النظام القائم بآخر مختلف، ولم تكن القيم الغربية المنحرفة في طريقها نحو التعولم، وكان الذكاء الاصطناعي مجرد فكرة في مختبرات الغرب.

إن عدم الانتماء إلى العصر القديم دليل على أنّ هناك شيئًا ما بدأ يتغير، ولكنّ المؤكد أن العصر الجديد لم تكتمل معالمه بعد، وأن العمل جارٍ على بناء عالم جديد ينتظر تحديد صانعيه.

أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن شراكة روسيا مع الصين لا تستهدف دولًا ثالثة، لكن موسكو وبكين يمكن أن “توحّدا قدراتهما إستراتيجيّا” إذا واجهتا عدوانًا.

عدم الانتماء إلى العصر القديم دليل على أنّ هناك شيئًا ما بدأ يتغير، ولكنّ المؤكد أن العصر الجديد لم تكتمل معالمه بعد

تصريح زاخاروفا تزامن مع المحادثات التي جرت بين زعيم كوريا الشمالية كيم جونع أون والأمين العام لمجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو، اللذين ناقشا تعزيز “الحوار الإستراتيجي” بين البلدين.

إنه سياق مستمر لصنع “تحالف إستراتيجي”، هذا ما تعمل عليه روسيا ومجموعة من حلفائها علنًا بهدف ردع أي عدوان، وتحديدًا العدوان الأميركي. فما بات واضحًا هو فرملة عصر الهيمنة الأميركية الذي فرض على النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي، واستبداله بنظام مرتبط بعصر جديد، وهنا تكمن التحديات.

واضح ذلك الإصرار على الدخول إلى النظام الجديد، لكن ما ليس واضحًا هو ترتيب العصر الذي سيلاقي النظام. فالضربة التي نفّذتها إسرائيل على عناصر حزب الله في 17 و18 سبتمبر الجاري، كشفت عن تفوّقٍ تكنولوجي نوعي بارز ترك بصمات من الاستغراب والذهول. فإن إقدامها على عملية تفجير الأجهزة اللاسلكية (البيجر) التي كانت في يد عناصر الحزب أدّى إلى مقتل 32 بين محازب ومواطن، إضافة إلى وقوع آلاف الجرحى بحسب ما ذكر وزير الصحة في الحكومة المستقيلة فراس الأبيض.

إنها نقلة نوعية للحرب تحاكي الجيل الخامس ويمكن السادس، والتي أصبحت غير تقليدية، وترتكز على عنصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أكثر من آلة الحرب العسكرية. إذ لكي يأمر بوتين جيشه بتسريع وتيرة صناعات الطائرات المسيرة 10 أضعاف على ما كانت عليه العام الماضي، فهو دليل على التفوّق الميداني الذي سبّبته تلك التكنولوجيا أمام الآلة العسكرية التقليدية.

لا تتوقّف مشهدية التغيير على القوة العسكرية التي يستند إليها “الحلف الإستراتيجي” لقلب النظام، بل تذهب إلى إحداث ثغرات على الصعيد الاقتصادي عبر دعم وتعزيز حضور مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي الاقتصاديتين لمحاكاة الغرب في مواجهة مجموعة الدول الصناعية السبع. كما أن التحايل على العقوبات الأميركية والتفكير جديًا بالتخلي عن الدولار في التبادلات التجارية هما خطوة على طريق التغيير.

ليست مهمة سهلة الدخول إلى العصر الجديد؛ لهذا جميعنا، وليس بابا روما فقط، نعيش اليوم حالة “الانتظار” لذلك المخاض في انتظار الولادة

لم تكن زيارة الرئيس الروسي إلى بكين في مايو الماضي للمشاركة في الاحتفال بالذكرى الـ75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما فقط، بل كانت مناسبة للتباحث في كيفية تطوير العمل وتوسيع مهام مجموعة بريكس التي أنشئت عام 2009، في محاولة لتوجيه الديناميكيات الجيوسياسية في العالم، بعيدًا عن الهيمنة الأحادية للغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، وبصفتها مجموعة تطمح لأن يكون لها ثقلها السياسي ودورها في صناعة ورسم معالم السياسة الدولية، مثل مجموعة الدول الصناعية السبع، وتوحيد العالم نحو نظام متعدّد الأقطاب.

“لا أفكر كثيرًا في بوتين”، كان هذا جواب جو بايدن عن سؤال أحد الصحافيين حول التهديدات الأخيرة التي أطلقها نظيره الروسي، بعد تحذير الخميس 12 سبتمبر الجاري من أن “سماح الغربيين لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية بواسطة صواريخ بعيدة المدى، سيعني انخراط دول حلف شمال الأطلسي في حرب ضد روسيا”.

لم يبالغ بايدن في جوابه، لأنّ بلاده تضع اليوم كل تركيزها على كيفية إدخال العالم في العصر الجديد الذي تسعى واشنطن لإيجاده. لقد أكّدت إدارة بايدن على هذا مرارًا، فتوجّهت إلى الأميركيين بأنّ عليهم أن يكونوا قادرين على بناء هذا العصر “إذا كان لديهم ما يكفي من الجرأة والثقة بالنفس”. صريح السيد بايدن في طرحه، فواشنطن نفسها باتت بحاجة إلى تغيير هذا النظام، لهذا هي اليوم لا تلتفت إلى التهديدات العسكرية، لأن عسكرها قادر على محاكاة أي حرب. ولكنها تسعى من خلال احتواء القوة الصاعدة، عبر إلهائها بحروب جانبية، للاستئثار بالجانب التكنولوجي الذي سيكون عنوان المرحلة القادمة من الهيمنة والسيطرة.

صدق بايدن في ما قاله، فبلاده لا تريد توسيع دائرة الحروب من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط، بل جلّ ما تعمل عليه هو الإدارة الحكيمة للأحداث في سبيل التهيئة للعصر الجديد. تحتاج إلى المزيد من الوقت لإنجاز ذلك؛ فالأمر لا يقف عند استخدام القوة العسكرية والاقتصادية فقط، بل أيضًا عند تحديد الثقافة والهوية للعصر الذي من المزمع أن ينشأ. فإن الغرب أصيب بالصدمة مع حالة الرفض لتقبل ثقافته وقيمه، على رأسها إعطاء حقوق المثليين أو تلك المتعلقة بترك الولد يحدّد هويته الجنسية، وغير ذلك.

ليست مهمة سهلة الدخول إلى العصر الجديد؛ لهذا جميعنا، وليس بابا روما فقط، نعيش اليوم حالة “الانتظار” لذلك المخاض في انتظار الولادة. فهذا “التلبّك” الحاصل على الساحة الدولية مردّه الإصرار على تغيير النظام، وهذا بات بحكم الواقع، ولكن ماذا عن العصر الجديد وكيف ستتحدّد معالمه؟.

7