ماهر حسن لـ"العرب": نحن أكثر أمة يتم تزييف تاريخها لأسباب سياسية

كاتب يجمع أسرار وكواليس 300 شخصية من رموز مصر.
الخميس 2025/05/22
عدد المؤرخين المحايدين يكاد يكون منعدما

عند الكتابة عن أي من الرموز الوطنية والسياسية اعتدنا إما أن نجعله شيطانا كاملا أو ملاكا كاملا من الشعر إلى الصحافة، ومن التاريخ إلى التراث، المشترك بينها جميعا هو النص الثري الجاذب، المفعم بالصدق والإحساس، الممتلئ بالخبرات والتجارب، حتى يعجز القارئ عن تركه قبل أن يكمله، أيّا يكن نوعه أو موضوعه. هكذا هي نصوص الكاتب المصري ماهر حسن. "العرب" كان لها معه هذا الحوار حول تجربته المختلفة في الكتابة.

القاهرة – الكاتب ماهر حسن، نموذج لمبدع حقيقي، يحمل على كاهله نتاج رحلة طويلة مع الكتابة، عمرها أربعون عاما، سار خلالها ولا يزال في دروب عديدة، التقى فيها رموزا وأساتذة، اقترب منهم وحاورهم، كما أبدع هو شعرا وبحثا تاريخيّا وكتابة صحافية.

صدرت حديثا للكاتب الطبعة الثانية من كتاب “الدساتير المصرية في مائتي عام.. وجوه معارك ونصوص” عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر (حكومية)، ومن محطة الكتاب انطلقت رحلة الحوار مع الكاتب.

شيطان أو ملاك

حسن يحرص على التوجه لعموم القراء ويقدم لهم التاريخ بشكل جاذب وحكائي مع التزام الحياد في التوثيق

يكشف ماهر حسن لـ”العرب” أنه قرر اختيار جهة حكومية لنشر كتابه بدافع وطني تلقائي، حرصا على وصوله إلى القارئ المصري بأيسر السبل، لأن الجهة الناشرة لها منافذ عرض وبيع في كل محافظات ومدن مصر، فضلا عن أن سعر الكتاب في متناول الجميع بما في ذلك محدودو الدخل، حتى تصل الثقافة الدستورية إلى الكل.

تسأله “العرب” عن رؤيته حول مدى أهمية إمداد المواطن بثقافة دستورية، في ظل الآراء التي تذهب إلى عدم تطبيق بعض مواد الدستور على أرض الواقع، وعما إذا كان قراره تأجيل مناقشة الدساتير المصرية وتعديلاتها بعد 2011 بسبب احتياج ذلك إلى وقت طويل في البحث أم أنها محاولة للانتظار تفاديا للمشاكل والصعوبات.

يجيبنا حسن بأن “السببين معا وراء تأجيل التعرض لمناقشة دساتير ما بعد ثورة 25 يناير 2011، فهذا يحتاج كتابا آخر، ويلتزم التحفظ في ذكر بعد التفاصيل”، مبينا أن كتابه استغرق ما يقرب من عامين أمضى فيهما شهورا ما بين دار الوثائق وأرشيف البرلمان والمكتبات العامة، ولإنجاز الجزء الثاني منه فإن هذا يتطلب وقتا طويلا لا يقل عن عام.

ويشير إلى أننا نجد في أكثر من دولة عربية وليس في مصر فقط الكثير من المواطنين لا يحيطون بفحوى دساتير بلدانهم، ولا يعرفون ما لهم من حقوق دستوريا وما عليهم من واجبات.

وتوصل الكاتب المصري خلال بحثه التاريخي إلى أن أفضل الدساتير المصرية هما دستوران وليس واحدا، الأول هو دستور 1923 الذي أنجزته ما يسمى بلجنة الثلاثين التي وصفها سعد زغلول بـ”لجنة الأشقياء” رغم أنها ضمت أطياف المجتمع من كل الديانات والتخصصات والمستويات والطوائف الاجتماعية.

أما الدستور الثاني فكان دستور ما بعد ثورة يوليو 1952، وهو دستور 1954 ولم تعمل به قيادة ما بعد ثورة يوليو وألقته جانبا، وأصدر الكاتب الراحل صلاح عيسى كتابا عنه بعنوان “دستور في سلة المهملات”.

وأصدر ماهر حسن خلال رحلته دواوين شعرية عدة، منها كل “عشق وأنت بخير” و”لا جديد” و”يمر بيننا” و”شروخ الوقت” و”وشايات عادية”، واهتم دوما بالكتابة في التاريخ والتراث، كأنما يعد الشعر بالنسبة إليه محاولة للتحليق في سماء الأحلام، في مقابل قبح الواقع وقسوته اللذين قد يكشف عنهما التاريخ.

عند الكتابة عن أي من الرموز الوطنية والسياسية اعتدنا إما أن نجعله شيطانا كاملا أو ملاكا كاملا

يقول ماهر حسن لـ”العرب”، “نحن أكثر الأمم التي يتم التلاعب والتحريف والتزييف في تاريخها لأسباب سياسية، ويبدأ التحريف من المقررات الدراسية ويتجلى في الأفلام والدراما، وعدد المؤرخين المحايدين يكاد يكون منعدما، كما أننا اعتدنا عند الكتابة عن أيّ من الرموز الوطنية والسياسية إما أن نجعله شيطانا كاملا أو ملاكا كاملا، وننأى عن الحياد، برغم أن لكل منا إيجابياته وسلبياته وكان هذا من الدوافع الرئيسية لخوضي في كتابة التاريخ.”

ويستند الكاتب إلى أكثر من مصدر في إعادة التوثيق، فحين يكتب مثلا عن الخديوي إسماعيل يقول الكثير من إيجابياته، مثل ميلاد أول برلمان وأول دستور وإنارة الشوارع وإقامة المتاحف والتوسع في الزراعة والتعليم وتأسيس المسرح والصحافة والأوبرا وإتمامه حفر قناة السويس وغيرها كثير، كما يعرض في نفس الوقت سلبياته، التي كان من أبرزها الاستدانة من الغرب والتي كانت سببا في خلعه في نهاية الأمر.

ويحرص حسن على أن يتوجه لعموم القراء، بأن يقدم لهم التاريخ بشكل جاذب وحكائي الطابع، مع التزام الحياد في التوثيق، ليصحح للقراء ما استقر في أذهانهم من أمور ووقائع وتقييمات مغلوطة أو منحازة.

ومن الشعر إلى التاريخ إلى الصحافة، حيث أسس حسن ملحقين ثقافيين أسبوعيّا في صحيفة “المصري اليوم”، هما “دنيا الكتب” و”سور الأزبكية”، ويقوم بالإشراف عليهما. وبينما يرى البعض أن الصحافة معطلة لإبداع الأديب يذهب آخرون إلى أنها تفتح الأبواب أمامه للانتشار عبر علاقاته مع العاملين في الحقل الثقافي. فأين يقف الكاتب من الرأيين؟

يجيب ماهر حسن عن سؤال “العرب” بأن هذا يعود إلى طبيعة المبدع، فهناك مبدع يستثمر الصحافة في تحقيق منافع من ورائها ويعتبرها منصة ترويج له، وهناك مبدع ثان تمثل الصحافة بالنسبة له منصة مفتوحة على الحياة والتجارب الإنسانية التي تمثل مصدرا للإلهام، كأن يعرف الصحافي العاشق لقراءة التاريخ مثلا شيئا عن حوادث ووقائع تاريخية فيستلهم منها عملا إبداعيا، وهناك ثالث يعطي مهنة الصحافة بمنطق “على قد (قدر) فلوسهم” فينجز ما يكلف به من عمل كي لا تستهلك الصحافة وقته وطاقته.

وينتمي حسن إلى نوع رابع يحدده، قائلا إنه يعطي الكثير من وقته لمقال صحفي يومي وحوارات وتحقيقات وملفات تاريخية وملحقين في أربع صفحات أسبوعيا، ما يؤثر بالسلب على وقته وطاقته، بل وخياله الإبداعي أيضا، حتى إنه صار لديه ما يقرب من خمسة كتب يود استكمالها منذ ثلاث سنوات، كلّ منها أنجز ثمانين في المئة منه، لكنه لا يجد الوقت أو “المود اللائق” بإنجاز هذه المشاريع المعطلة.

ويقول حاسما “الشللية التي أفسدت المشهد الثقافي، أنا أبعد ما يكون عنها، ويمكنني الاعتراف بالفشل في تحقيق علاقات نفعية، فالكثير من تلاميذنا وزملائنا الصغار أجادوا استثمار عملهم ومؤسساتهم كجسور للمنفعة، وهم أحسن حالا مني ماليا، لكن أقول الحمد لله لأن راتبي يكفيني بالكاد حتى آخر الشهر.”

شخصيات وذكريات

يخطط لإصدار هذه الحوارات في كتاب، يضم كواليسها التي تكشف عن ملامح إنسانية لشخصيات بارزة وأسماء كبيرة

التقى ماهر حسن على مدى رحلته الصحافية التي بدأت عام 1985 مبدعين وسياسيين ومفكرين وفنانين كبارا، حاورهم واقترب منهم، إذ قام بإجراء أكثر من ثلاثمئة حوار مع شخصيات تاريخية ورائدة في السياسة والصحافة والفن التشكيلي والمسرح والسينما والرواية والشعر، وكانت له معهم دروس وقصص وذكريات.

ويكشف لـ”العرب” تخطيطه لإصدار هذه الحوارات في كتاب، يضم كواليسها التي تكشف عن ملامح إنسانية لشخصيات بارزة وأسماء كبيرة.

ومن بين هذه الأسماء نجيب محفوظ وأحمد زويل وعبدالوهاب المسيري ولويس عوض وغالي شكري وجلال أمين وفهمي هويدي وأحمد عبدالمعطي حجازي وعبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم ونور الشريف وسيد مكاوي وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وداود عبدالسيد وعلي عبدالخالق والإذاعي أحمد سعيد وسميحة أيوب ونادية لطفي ولبنى عبدالعزيز وعزت العلايلي وأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد ومحفوظ عبدالرحمن، وآخرون.

وكان أول الدروس التي تعلمها حسن ممن التقاهم، أنه بقدر أهمية وعظمة كل شخصية بقدر ما كانت متواضعة، فمثلا كان نجيب محفوظ يقف ويصافح رجال المرور وعمال النظافة في الشوارع، ولم يكن متعجرفا مع أي إنسان، إذ كان يناديه وهو لا يزال صحافيا مبتدئا بـ”أستاذ ماهر”، فسلوكه جمع بين التواضع والاحترام، ولم يكن مريضا بالتضخم شأن البعض من الشباب الذين أصدروا عملين أو ثلاثا، كما يقول.

أجرى ماهر حسن حوارا مع نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل، يسترجع ذكرياته ضاحكا، بأنه بعد عشر دقائق من بدء الحوار دخل عليهما الكاتب فتحى العشري المسؤول عن تنظيم برنامجه اليومي وقد سيطر عليه الضحك، فلم يغضب الأستاذ إنما ضحك أيضا وطلب الفهم قائلا “ما تضحكنا معك.”

أخبره العشري بأن هناك طفلا في الصف السادس الابتدائي أرسلته المدرسة ليجري معه حوارا لمجلة الحائط بالمدرسة، فإذا بنجيب محفوظ ينفجر ضاحكا ويقول “ما ينفعش يا أستاذ ماهر نكسر خاطر طفل”، فردّ “بالعكس يا أستاذنا”، وقام بنفسه بتصوير حوار الطفل مع محفوظ.

وضمن كواليس الحوارات مع الكبار، يكشف ماهر حسن أن الشاعر أحمد شفيق كامل أخبره بأنه حزن لغناء أم كلثوم أغنية “إنت عمري”، وأنه كان يتمنى أن يتغنى بها محمد عبدالوهاب، كما حكى له عن قلق الموسيقار كمال الطويل والفنان عبدالحليم حافظ من تعبير “ضربة كانت من معلم خلى الاستعمار يسلم” في أغنية “حكاية شعب”، واعتبرا أنه لا يصح أن تقال كلمة “معلم” عن رئيس الدولة جمال عبدالناصر.

رد عليهما أحمد شفيق كامل بأننا نقول ذلك عن الجرّاح الماهر حين يجري عملية جراحية مستعصية وحرجة، وحين ينجح رجل أعمال في صفقة كبيرة ومهمة، وأن عبدالناصر رجل ابن بلد وبسيط. وبرغم ذلك تمكن القلق بعدها من شفيق نفسه، لكنه فوجئ عندما سافر لحضور الحفل الذي قُدمت خلاله الأغنية في أسوان بضحك جمال عبدالناصر الذي أعجبه هذا التعبير.

وخلال حوار الكاتب مع الفنان نور الشريف، أعطاه نسخة من مجلة “البيان” التي تصدرها رابطة أدباء الكويت، وكانت لماهر حسن قصيدة منشورة فيها بعنوان “أسميك ماذا” عن انتفاضة الأطفال في فلسطين، فإذا بنور الشريف يقوم بقراءتها بأداء صوتي رائع، وكأنه هو من كتبها، حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة من القصيدة ففوجئ بأن من رسم الصورة التعبيرية لها هو الفنان ناجي العلي، فاندهش وأخذ يصفق بحماس.

13