ماكوندو قرية عراقية

الخميس 2016/05/05

لا يمكن لكاتب أن ينجو من تأثيرات جانبية أو جوهرية فالموضوع قديم وممكن في أي زمن ما دام التلاقح الثقافي فاعلاً على مر الوقت، ونحسب دائما أن الكاتب يبقى ذلك الطفل الذي يتعلم في كل لحظة من غيره ويستقطب زادهُ المعرفي في كل حين.

وليس جديدًا أن يترك أي كاتب كبير أثره في جيل أو أجيال، وهذا موضوع طويل لو نقّبنا فيه لن يسلم كاتب من مؤثراته القرائية الكثيرة، والمثال الأقرب هو كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي لم يستطع بورخيس أن يتخلص من سحره العجائبي، ولا ماركيز من فتنة سرده وتداخلاته النصية، وبالتالي فإن كتبا وكتّابا يصنعون الآخرين بهذه الطريقة أو تلك هي عملية متوالدة ولا تقف عند حد.

حينما قرأنا “مئة عام من العزلة” في ثمانينات القرن الماضي سحرنا ماركيز بقريته العجائبية “ماكوندو”، كما سحرتنا شخصياته القروية وجنرالاته المتقاعدون وخياله الواسع جدا في خلق سرد يضاهي الواقع بل ويتفوق عليه. وماركيز الساحر في واقعياته رافق بدايات جيلنا الثمانيني ووضع بصمة غريبة على مجمل السرد العراقي في كثير من عجائبياته وغرائبياته وطقوسه الفذة في إعادة تكوين القرية ومنحها بطاقة عالمية لكن محافِظة على محليتها الوطنية.

شخصيا لا أتنكر لمثل هذا السرد العظيم الذي نبّهنا إلى الغامض من الواقع والمتواري فيه، فكان عليّ أن أعيد فحص الواقع وأتدخل في رسم ما يجب أن يعاد رسمه سرديا، ولكن ليس بالطريقة الماركيزية ذات الجملة الطويلة والصور المتراكبة السريعة الصادمة، بقدر ما اجتهدت أن أخرج من واقعة السرد المعتاد والموضوعة المكررة والآلية المعروفة في تركيب القصة والرواية، ومن ثم الخروج من الرصد العابر لمَشاهِد الحياة في مجتمع محلي قادر على أن يقدم أسطورته المحلية بشكل مدهش وساحر.

هكذا يمكن الإفادة من لعبة السرد الماركيزي بتغيير مناخ الأسطورة، والتدخل فيها بل وبتغيير بعض مركّبات الواقع بمنحها خيالا أكبر ونسجها بسرد جديد، وإعادة صياغة الواقع بما يتلاءم مع خيال السرد ويضفي عليه نكهة محلية لا تتشابه مع أيّ نكهة محلية أخرى. فالخيال في سرده الجديد يوجب على الكاتب أن يتعامل بحرفية مع الوقائع المعروفة ليخرجها بطريقة فنية، بخلق سردي، حتى لو افترضنا وجود مؤثرات خارجية فإنها تبقى مؤثرات داعمة للمشروع السردي.

علاقتنا السردية بماركيز هي كعلاقة الأحفاد بجدهم الحكيم، ففي ظرف الثمانينات اقتحمتنا الواقعية السحرية بقيادة هذا الجد لتضع سردا لا يشبهه سرد في “مئة عام من العزلة”، وحياة محلية في “ماكوندو” قريبة الشبه بحيواتنا المحلية والشعبية من حيث رسم المكان أو رسم تداعيات حرة لبيئة تراكمت عليها عقد التاريخ وحروبه وجنرالاته، مضافة إليها طقوس شعبية سحرية عجائبية برع الجد ماركيز في سردها بعدسة لاقطة مكبرة استجلى عبرها النوع الاجتماعي السائد في فترات مختلفة من تاريخ كولومبيا.

لم ينبهني ماركيز إلى قرويتي وخفاياها وطقوسها وخرافاتها وأساطيرها، لكنه وأنا في مقتبل الكتابة نبهني إلى آليات الاشتغالات السردية في اكتشاف سحرية السرد في واقعيته المحلية، وهذا أمر كان جديدا في الثمانينات العراقية ، لهذا وجدنا في “ماكوندو” قرية عراقية في كل تضاعيفها التاريخية والاجتماعية وبُناها الداخلية والفوقية ومكنوناتها الظاهرة والباطنة.

إن استشفاف مثل هذا الأثر هو قدرة الآخر- ماركيز على خلق قرية عالمية من بيئة صغيرة متوارية خلف التاريخ والجغرافيا، فليس من السهل أن أقول إن “ماكوندو” قرية عراقية، لأنها بالفعل كذلك، وهذه هي عظمة ماركيز.

كاتب من العراق

14