مارك بونن السينما لا تهتم بالحدود الجغرافية

بروكسل- مدينة تورنهاوت التابعة لقضاء أنتويربن، عاصمة إقليم الفلاندر في المملكة البلجيكية المؤلفة من ثلاثة أقاليم ناطقة بالفرنسية والهولندية النيدرلاندية والألمانية، تشهد هذه الأيام فعاليات مهرجان مووف السينمائي الدولي الذي ينظَّم سنويا منذ ستة وعشرين عاما.
استوقفتني اللافتات المنشورة في كل اتجاه للترويج لأفلام سينمائية قادمة من أصقاع الأرض وثقافاتها المختلفة، داعية الجمهور المتنوع إلى متابعتها. وما إن ولجتُ في قلب مبنى “أوتو بولس” الشهير بشارع خراكير حتى قابلت مارك بونن، العقل المدبِّر لهذه الظاهرة منذ أن كانت مجرد فكرة وحتى صارت اليوم واحدة من أهم الفعاليات في الشمال الأوروبي إن لم نقل في عالم السينما الأوروبية ككل.
ربما تبدو مدينة تورنهاوت المتاخمة للحدود الهولندية لغير ساكنيها، مدينة عادية الحضور، لكن الثابت أنها استطاعت خلال سنواتها الأخيرة أن تكون لاعبا أساسيا في صناعة الثقافة على مستويات عديدة، فمهرجان مووف السينمائي الذي انطلق منها كنقطة ولادة وبداية، اتخذ موقعا له في أكثر من ستِّ مدن بلجيكية مترامية الأطراف تجري العروض السينمائية فيها في وقت متزامن.
قبل ستة وعشرين عاما تلقَّى بونن المولود في مدينة خِيل عام 1969 دعوة من بلدية تورنهاوت لإقامة مهرجان سينمائي خاص بالمعاقين ضمن برنامج خاص لتثقيف طلبة المدارس. قبل ذلك بسنوات كان قد أنهى دراسته الأكاديمية في جامعة لوفين، والتحق كمدرس لمادة الأديان في المؤسسات التعليمية ضمن المدينة.
كانت تلك المرحلة كما يقول بونن لـ“العرب” هي الخطوة الأولى التي رسَّخت لديه إيمانا حمله منذ سنوات شبابه الأولى، بأن السينما قادرة على تغيير العالم، فالأفلام كانت محور حياته واهتماماته بوصفها ثيمات استقاها مبدعون من مجتمعاتهم لتكون مرآة عاكسة لكل ما تعانيه تلك المجتمعات وما تحمله من ذهنيات مختلفة تؤثر بشكل أو بآخر على مصائر أبنائها.
قصة التوازن عند بونن تبدأ من الدين الذي يعتبره أكثر من العلاقة بين المخلوق والإله، إنه أسلوب حياة متكامل يساعد الإنسان على فهم معضلاتها وحل ألغازها التي يواجهها يوميا، يعترف بأن السينما ساعدته على إدارة تلك المفاهيم المختلفة بوصفها حاملا موضوعيا متنوعا يختصر عوالم الآخرين ويضعها أمام المتلقي عبر شخصيات عديدة تفتح آفاق التفكير وطرائقه.
نحن وهم
بونن يرى أن صعود اليمين سببه الخوف من الآخر ولهذا يعتبر أن اختيارات الأفلام في مهرجان مووف لا تخضع للجغرافيا أو الأعراق التي صدرت عنها الأعمال الإبداعية
يتابع بونن حديثه الأول للصحافة العربية مستحضرا فهمه الأول مع انطلاقة المهرجان المحلي قبل أن يتحول إلى شكله العالمي، ذلك الفهم كان قائما على ثنائية “الشمال والجنوب”، “نحن وهم”، قبل أن يكتمل يقينه بأن اختلاف الثقافات يعزِّز قوة الشرق والغرب من جهة والشمال والجنوب من جهة أخرى، ففي حقيقة الأمر لا وجود لثنائية “نحن وهم”، هناك جسد واحد يكمن في الجميع، صورة الإنسانية التي تنطلق في خطوتها الأولى من محليَّتِها وتصل في كمالها إلى العالمية حين تخاطب الآخر، وهذا الخطاب لا يمكن أن يتم إلا عبر السينما، فوسائل الإعلام كما يراها تنطلق من أجندات ثابتة أو رؤية مسبقة مبنية على معطيات معينة للحدث ومكانه وزمانه، بينما السينما لا تهتم بالحدود الجغرافية وليست خاضعة للتقسيمات الثقافية، يتذكر هنا حادثة مع مخرج كاميروني بنى تصوره لتحقيق الدعم على ثنائية “الغنى الأوروبي، الفقر الأفريقي”.
“هذا خاطئ بالمجمل” يقول بونن الذي يشرح وجهة نظره القائمة بجوهرها على فكرة الشاشة المفتوحة لجمهور يدرك ما يشاهد بعيدا عن المكان الجغرافي، وهذا بالضرورة ليس خاضعا لمنظومة الفقر والغنى، فما يهدف إليه اليوم هو الاستمرار في طرح خيارات متنوعة لبناء جملة آراء جديدة لكنها في الوقت ذاته تناسب كل الناس، وفي ظل الانفتاح العالمي بين الشعوب اليوم يمكن للسينما فعل ذلك من خلال البحث عن السعادة عبر مشاهدة عالم جديد.
التفكير خارج الصندوق
عن الراديكالية وصعود اليمين اليوم في أوروبا، يقول بونن إن كل ما يحدث اليوم يمكن فهمه في إطار ظروفه الموضوعية والذاتية التي تحكمه، يحيل هذا إلى خوف الآخر من الآخر باعتباره غريبا، يؤكد أن البشر ليسوا غرباء عن بعضهم مهما تعددت لغاتهم وثقافاتهم، فالخوف من الآخر المختلف هو الذي أدى إلى ظهور التطرف أو مهَّد كل ما يمكن ليكون أمراً واقعا، يقرُّ ضيفنا أن النظر إلى الكرة الأرضية من أعلى يمنح هذا الإحساس، بأن هناك ظلاما بدأ يخيِّم في كل مكان، لكن السؤال هنا كيف تمكن محاربة هذه الموجة؟ يضع كل الأسباب بين يدي السينما فهي القادرة على إزاحة كل العراقيل لصناعة عالم جديد تسوده المحبة.
|
هذا ما يفعله بالضبط مهرجان مووف السينمائي الدولي من خلال الترويج لأفكار غير جاهزة، بمعنى أن التفكير يولد وينطلق من خارج الصندوق، فالسينما تقدم الآخر ليس فقط على أنه بشر بل صديق أيضا يمكن الجلوس معه على طاولة واحدة وتبادل الأفكار أيضا، يؤكد هنا سعيه لتصديق مقولة إن الفنانين والروائيين والصحافيين قادرون على تغيير هذا العالم وتحقيق عنصر الموازنة فيه.
اختياراته للأفلام التي تستحق العرض ضمن برنامج المهرجان يقول بونن إنها لا ترتبط بالجغرافيا أو الأعراق التي صدرت عنها الأعمال الإبداعية، هذا غير ضروري في عالم السينما، فالقضية تعتمد على جودة الفيلم بالدرجة الأولى، الجودة عند بونن قائمة على نقاط عديدة أهمها، الصورة، الأفكار، اللمسات الفنية، الطريقة التي شرح بها المخرج مقولات النص، وبالطبع الموازنة بين القيم الفنية والمحاكمة العامة للقصة، يجزم ضيفنا بأن اجتماع هذه النقاط في أي فيلم لا بد أن تدفع به إلى برامج المهرجانات العالمية.
المشاركة العربية متنوعة هذا العام بين الأفلام الطويلة والقصيرة والوثائقية، لكن مع ذلك، يقول مؤسس مهرجان مووف السينمائي لـ“العرب” ، إن المشاكل وحدها هي ما يصل إلى الجمهور الأوروبي حول العالم العربي.
فعندما تحضر تلك الجغرافيا في الذهنية الأوروبية تكون مرتبطة بشكل أو بآخر بأنها منطقة صراعات وأزمات لا تنتهي، يحمِّل بونن وسائل الإعلام المسؤولية عن هذه النمطية من التفكير والنظرة المسبقة، ويؤكد أنّ السينما في العالم العربي بخير رغم انجرافها خلال السنوات الأخيرة خلف الحدث لتصوير ما يقع في المدن العديدة، هذا منطقي كما يراه بونن بوصف السينما مرآة عاكسة للواقع، يختار الحديث عن فيلم “بر بحر، بينهما” للمخرجة الفلسطينية ميسلون حمود، باعتباره قدَّم حالات متنوعة في الداخل الفلسطيني ضمن ما يعرف بأراضي الـ48، هذا الفيلم يقول بونن إنه كان فيلم الافتتاح للمهرجان ومنه بدأت الانطباعات العامة عن مجمل العروض.
فيلم "اشتباك" للمخرج المصري محمد دياب يشارك في مهرجان مووف، وتدور أحداثه في عربة ترحيلات تابعة للشرطة المصرية عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين بعد 30 يونيو 2013 يقول بونن إن هذه النوعية من الأفلام الطويلة تعطي صورة عن هموم ومجتمعات تلك المنطقة من العالم
أيضا هناك فيلم “اشتباك” للمخرج المصري محمد دياب الذي تدور أحداثه في عربة ترحيلات تابعة للشرطة المصرية عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين بعد 30 يونيو 2013، يقول بونن إن هذه النوعية من الأفلام الطويلة تعطي صورة عن هموم ومجتمعات تلك المنطقة من العالم وهي بطبيعة الحال تتقاطع بصورة أو بأخرى مع هموم مناطق كثيرة حول العالم، يغتنم بونن فرصة وجوده في وسيلة إعلام عربية ليخاطب المبدعين العرب ويدعوهم إلى المشاركة في مهرجان مووف السينمائي في الدورات القادمة، فالوجود العربي يشكِّل إضافة للعروض بحسب ضيفنا، يتحدث هنا عن زياراته المتكررة للمغرب العربي ومهرجاناته في قرطاج ومراكش، واكتشافه بأن ذلك العالم يحمل في كل زاوية منه عالما سينمائيا متكاملا.
حياة الكتاب
فعاليات المهرجان تنوعت بين الأفلام الطويلة والقصيرة والوثائقية، وقد أضيف قسم رابع للمرة الأولى إليها، قسم الأفلام التي تناولت حيوات كُتَّاب ومبدعين من حول العالم. كبابلو نيرودا، ستيفان زفايغ، جيمس بالفن مثالا لا حصرا، نسأل بونن عن سبب هذه الاختيارات، فيقول إن القصة خاضعة للكثير من المقولات أبرزها يكمن في أن حياة الكاتب في حد ذاتها مغامرة تستحق التوقف والنظر، يختص هنا الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ الذي قال “لا” للواقع في ظل حاجته الماسة للخضوع.
تعريف بونن لزفايغ لافت، يقول إنه كاتب نمساوي على عكس غالبية المصادر التي تعرِّفه بأنه كاتب يهودي، ليقول إن الدين مسألة خاصة ومن الأخطاء الشائعة أن نقوم بالتعريف عن دين الكاتب دون منجزه، وكأنَّ الدين في هذه الحالة هو جواز مرور دون النظر للمنجز الإبداعي ككل، فزفايغ الذي ولد في النمسا، مات منتحرا في البرازيل.
وبين الولادة والوفاة مرَّ بأحداث كثيرة لا تؤرِّخ فقط لسيرته، بل هي التأريخ الموازي لتأريخ أوروبا الذي كتبَه المنتصر، زفايغ رفض الحصول على الجواز الألماني بعد أن قام هتلر باحتلال النمسا، لقد تعامل مع النازي على أنه قوة احتلال فاضطر للعيش متنكرا متخفيَّا في مدن عديدة بين النمسا وألمانيا وفرنسا، حتى استطاع الحصول على جواز سفر بريطاني أتاح له فرصة العبور نحو أميركا اللاتينية حيث عاش عامين هناك قبل أن يرى اكتمال انهيار أوروبا بسبب الحروب، ليواجه مصيره الذي اختاره وهو أن الحياة ستضيف له من الآلام ما لن يقدر على احتماله، فقرر الموت انتحارا رفقة حبيبته وكلبه، بعد أن بعث أكثر من مئة رسالة إلى أصدقائه حول العالم يخبرهم بعزمه على الرحيل نحو العالم الآخر.
|
يقول بونن إن هذه الحياة بكل ما تحمله من قصص ومسارات حكائية درامية تم تكثيفها لتُروى ضمن فيلم سينمائي يحاكي آخر عامين من حياة زفايغ في البرازيل، فحياة الكتَّاب والمبدعين تصلح ميدانا هاما للسينما ولعدسات المخرجين باعتبار أنَّ هؤلاء هم القادرون على تغيير العالم، ونقله من حالة إلى أخرى.
المستقبل للسينما
رغم ارتفاع صوت الرصاص من كل اتجاه، إلا أن بونن يرى أن المستقبل للسينما. لأن العالم صغير جدا، وهو أصغر من قرية موجودة في الأقاصي البعيدة. يعود إيمانه ذلك إلى تواجد وسائل الاتصال التي جعلت العملية الإبداعية اليوم في متناول اليد، فالفكرة عنده قائمة على الإصرار على الاستمرار لتحقيق الأهداف بخطط تكتيكية أو استراتيجية، قصيرة أو طويلة المدى، فالبشر يستحقون حياة أفضل في كل مكان والانتقال من مساحة إلى أخرى يجب -بحسب ضيفنا- أن تمهِّد له السينما باعتبارها العين الثالثة، أو عين العقل والعاطفة معا كما يقول. فالمتلقي حين يرى مستقبلا جيدا في شاشات السينما سيسعى إلى تحقيقه لكن إن قام المبدعون بترسيخ أفكار الإحباط فهذا سيجعل الإنسان يحاصر نفسه أكثر وينظر إلى الآخر على أنه غريب الوجه واللسان والثقافة في آن.
ستة وعشرون عاما يدير بونن مهرجان مووف السينمائي الدولي، ومع نهاية كل دورة يبدأ التحضير للدورة التي تليها، بقناعة راسخة قائمة على الانفتاح على الثقافات كافة باعتبارها ثقافات إنسانية تكمِلُ بعضها بعضا وتكاملها هو السبيل الوحيد لاستقرار العالم.