ماذا يريد الناخب التونسي

أمران لا يتردد التونسي في المشاركة بالحديث حولهما حين يتطرق الحديث إليهما ولو بطريقة عابرة، كرة القدم والسياسة. لن يطول بك الوقت لتكتشف أن التونسي خبير بالأمرين، فهو متابع جيد لما يجري في الساحة الكروية وما يحدث في مضمار السياسة من تطورات.
القول إن التونسي ملّ السياسة ولم تعد تعنيه، غير صحيح. التونسي ملّ الأحزاب وملّ المعارضة بيسارها ويمينها بعد أن منحها 10 سنوات كان ينتظر منها أن تكون سنوات سمان، فتحولت إلى سنوات عجاف. وباستثناء الطبقة التي تعرف نفسها بالنخبة السياسية والثقافية، يرى التونسي اليوم أن الحديث عن حرية الرأي والديمقراطية مجرد ترف.
عندما أوقفت سيارة تاكسي لتقلني من ضاحية المرسى إلى وسط البلاد لم أكن أعلم أنني سأتلقى درسًا مطولًا في السياسة وأصول الحكم. اكتشفت منذ اللحظة الأولى أن السائق الذي يبدو من ملامح وجهه في منتصف الستينات من عمره، ضليع بالسياسة وقد أمضى، كما عرفت لاحقًا، شطرًا من حياته متنقلًا بين ليبيا وسوريا والعراق وتركيا، وزار المغرب والجزائر أكثر من مرة.
ما أن عرف السائق من لهجتي التي لم تغيرها 45 سنة اغتراب، أني سوري، حتى أبدى أسفه على الحال الذي وصلت إليها الأوضاع في سوريا. ولم يتوقف عند سوريا ولبنان، بل راح يتحدث عن الأوضاع في العراق وليبيا، ولم ينسَ مصر والسودان. وبدلًا من أن يمدح الربيع العربي، أبدى غضبه واصفًا ما حدث في تلك الدول بـ“الخريف العربي”.
هل الأولوية كما تفكر النخب المثقفة، للديمقراطية وحرية الرأي التي يقولون إنها أصبحت مهددة، أم لمحاربة الفساد وتحقيق الاستقرار والتنمية في البلاد؟
في تونس لا تستغرب أن تسمع الموقف الذي عبر عنه سائق التاكسي من 70 في المئة من التونسيين على الأقل.
المفاجأة كانت عندما سألته إن كانت لديه مخاوف على الديمقراطية.. اكتفى بجواب مقتضب وحاد “ما نفع الديمقراطية”. وعندما لم يسمع مني تعليقًا ورأى الصدمة مرسومة على وجهي، تابع قائلًا: تونس دولة يمكن فيها الحديث عن غياب حرية الرأي دون أن يخشى المرء على نفسه من الاعتقال.. هؤلاء الذين يتحدثون عن غياب الديمقراطية عليهم أن يزوروا دولًا مثل سوريا والعراق ومصر.. إنهم يريدون عودة الفوضى، يريدون برلمانًا مشلولًا يكتفي أعضاؤه بتبادل الشتائم، واللكمات..
على مدى الدقائق العشر المتبقية، وهي الوقت الذي استغرقته الرحلة للوصول إلى مقصدي الأخير، اكتفيت بالإصغاء مصدرًا همهمة من حين إلى آخر.. لم أرغب أن أوقف سيل الانتقادات التي تخرج من فمه. لسبب أو لآخر أردت أن أسمع هذه الانتقادات من تونسي بسيط.
نزلت من التاكسي، وأنا أتساءل: كيف نقنع التونسي أن الديمقراطية في خطر، وأن حرية الرأي مهددة، وهو يقرأ يوميًا آراء تنتقد أعلى سلطة في تونس دون أن يخشى أصحابها الذين يستخدمون أسماءهم الصريحة الاعتقال.
أقرأ يوميًا عشرات الانتقادات الحادة، يصل بعضها إلى حد التجريح، رغم ذلك لم يطرق “زوار الفجر” أبواب أصحابها.
منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن تدابير سميت بالاستثنائية في يوليو 2021، شملت تجميد البرلمان وإقالة رئيس الوزراء، اتهمته المعارضة بالاستحواذ على السلطة وممارسة الحكم دون أي رقابة.
ويرد قيس سعيد على منتقديه قائلًا إنه اتخذ هذه الإجراءات لإنقاذ تونس من شلل سياسي ومن أزمات اقتصادية كانت تعاني منها البلاد، ويرى أن النظام السياسي السابق لم يكن فعالا، وأن إصلاح دستور 2014 كان ضروريًا لتحقيق الاستقرار في البلاد، وأن الإجراءات القانونية التي اتخذت كانت ضد رجال أعمال وسياسيين متهمين بالفساد، وأن هذه الخطوات ضرورية لتحقيق العدالة.
أقرأ يوميًا عشرات الانتقادات الحادة، يصل بعضها إلى حد التجريح، رغم ذلك لم يطرق “زوار الفجر” أبواب أصحابها
ويؤكد الرئيس سعيد أن قراراته تستند إلى إرادة الشعب التونسي، وهو يسعى من ورائها لتحقيق مطالب التونسيين في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
من وجهة نظره، التغييرات تهدف إلى بناء نظام سياسي أكثر استقرارًا وفعالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ومن وجهة نظر المعارضة، فإن الرئيس سعيد قوض التقدم الديمقراطي الذي تحقق منذ الثورة التونسية في 2011، وعزز مناخًا استبداديًا يهدد الحريات والحقوق الأساسية.
أحزاب المعارضة ترى أن الحل يكمن في العودة إلى النظام النيابي وإجراء حوار وطني شامل يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية لإيجاد حلول للأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد.
هذا ما يريده الرئيس قيس سعيد، وهذا ما تريده أحزاب المعارضة.. ماذا يريد الناخب التونسي؟
عندما يتوجه الناخبون للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع يوم الأحد 6 أكتوبر القادم لاختيار من سيحل في قصر قرطاج لمدة خمس سنوات جديدة، ما هي المعايير التي ستحدد اختيارهم؟
هل الأولوية كما تفكر النخب المثقفة، للديمقراطية وحرية الرأي التي يقولون إنها أصبحت مهددة، أم لمحاربة الفساد وتحقيق الاستقرار والتنمية في البلاد؟
في المساء عرجت على الحانة أريد التغلب على العطش بسبب درجة الحرارة التي تجاوزت 37 مئوية ليستقبلني الباجي، وهو نادل يعمل هناك ويحظى بحب الرواد الذين يدللونه باسم “بجبوج”.
سمعت من بجبوج نفس الحديث الذي سمعته من سائق التاكسي صباحًا. لأعود إلى المنزل منتشيًا، ليس بفعل الجعة، بل بفعل الاستماع خلال يومي الحافل إلى آراء شاركني أصحابها قناعاتي..
بلد يتحدث فيه الناس عن قناعاتهم بصوت مسموع لا خوف فيه على حرية الرأي.