ماذا نقول للماغوط وقد صار الجوع جزءا من حياتنا؟

هذا المقال لا يتحدث عن قيمة الماغوط كشاعر، فهي قيمة حفظها له التاريخ، لا تحتاج إلى شهادة. المقال يتحدث عن الماغوط الذي عاش كما عشنا جميعا حينها وهم الوطن الواحد.
الخميس 2022/07/07
الهموم اختلفت

عندما قرر الشاعر السوري محمد الماغوط أن يخون وطنه كانت الدنيا بخير مقارنة مع ما نعيشه اليوم.

بين عامي 1987 و2022 خمس وثلاثون عاما، مليئة بالأحداث والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كانت تكفي للعودة بالمجتمعات العربية إلى الوراء مئة عام وأكثر. رغم ذلك اختار ثمانية شبان نصا من كتاب نشر في ذلك العام قدم لجمهور مهرجان عشتار الدولي لمسرح الشباب مستعرضين بعض الانكسارات والانتصارات باستخدام الكلام ولغة الجسد. الكتاب الذي تم اختياره هو “سأخون وطني” للكاتب والشاعر السوري محمد الماغوط.

يضم الكتاب مجموعة كبيرة من المقالات النقدية الساخرة، اختار كل ممثل من الممثلين الثمانية مقالا منها ليقدم في عرض مسرحي تولى خليل مطران إخراجه.

الهزائم والانكسارات والأوطان الضائعة بعد نكبة عام 1948 وما تلاها من حروب واتفاقيات سلام بين دول عربية وإسرائيل كانت موضوع المسرحية التي استمر عرضها 45 دقيقة على مسرح بلدية رام الله، وظفت خلالها لغة الجسد لعكس السخرية الموجودة في النصوص.

رحل الماغوط قبل أن يرى بلده وقد تحول إلى ساحة للاقتتال وقبل كارثة أطلق عليها اسم "الربيع العربي" وجائحة عرّت الواقع العربي وقبل أن يستفحل الجفاف وتعطش بلاد الرافدين

وكان الكتاب قد نشر لأول مرة عام 1987، ليتحول بسرعة إلى ما يشبه مانفيستو تناقله المثقفون اليساريون فيما بينهم، ولم ينقطع خلال 40 عاما عن لعب دور تحريضي لم  يخل من السخرية. وهو ما أكدته نشرة المهرجان حول المسرحية “إننا في هذا العرض نشارك الكاتب محمد الماغوط خيانته المجازية للوطن، إننا نريد وطنا مختلفا عكس الذي نعيشه في الوطن العربي، نريد وطننا نحن لا وطن الأسياد والطغاة”.

سبق للماغوط الذي هجر الدراسة باكرا وانتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، دون أن يقرأ مبادئه، أن كرم ومنح الجوائز أكثر من مرة ليس كمسرحي، بل كشاعر له إسهاماته المميزة في قصيدة النثر، إلى جانب بدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال. إلا أن شهرته الجماهيرية الواسعة تعود إلى ثلاثة أعمال مسرحية، هي: “ضيعة تشرين” و”غربة” و”كاسك يا وطن”. وهي أعمال لم يتردد الكاتب بإبداء عدم رضاه عنها فيما بعد.

رغم نشأته الفقيرة، والده كان فلاحا أجيرا طيلة حياته، إلا أن الماغوط في معارضته لم ينطلق من بيئته الفقيرة هذه، بل انطلق من بين نخبة سياسية مثقفة انحصرت همومها في الدفاع عن الحريات، ومن مشاعر خزي خلّفتها الهزائم المتلاحقة التي مني بها العرب في حربهم مع إسرائيل.

رحل الماغوط بعد عشرين عاما تقريبا من نشر كتاب “سأخون وطني”، فترة كانت تكفي ليشهد مزيدا من الهزائم والمآسي. ولكنه رحل قبل أن يرى ما حل ببلده سوريا، وما حل ببلده التوأم لبنان، وما حل بالعراق بلد صديقه بدر شاكر السياب، وما لحق بمصر وتونس، وما آل إليه حال اليمن والسودان.

رحل الماغوط قبل كارثة أطلق عليها العالم اسم “الربيع العربي”، وقبل جائحة عرّت الواقع العربي، وقبل أن يستفحل الجفاف وتعطش بلاد الرافدين. رحل قبل أن يرى بلده الذي طالما ضرب به المثل بالتعايش بين الطوائف والأقليات، وهو ابن واحدة منها، وقد تحول إلى ساحة للاقتتال بعد أن تكالبت عليه قوى خارجية صدرت إليه الميليشيات والجهاديين الذين أعلنوا عن إقامة دولة الخلافة على أراضيه.

رحل الماغوط بعد عشرين عاما تقريبا من نشر كتاب "سأخون وطني"، فترة كانت تكفي ليشهد مزيدا من الهزائم والمآسي

السوريون اليوم ليسوا سوريي الأمس، السوريون الذين شاركوا الماغوط يوما هواجسه الوطنية وحلمه بالحرية، تغيرت همومهم ومعها تغيرت طبائعهم. السوري اليوم مشغول بتأمين خبزه كفاف يومه. تحرير فلسطين لم يعد على رأس اهتمامات المواطن السوري والوحدة أمر لا يعنيه، النضال بالنسبة إليه معركة يومية عليه أن يؤمّن خلالها ما يسد رمقه ورمق أسرته. غاية ما يحلم به السوري تأمين أنبوبة غاز وسبع أرغفة خبز. حتى العلاج والتعليم أصبح ترفا لا يستطيع اقترافه السوريون اليوم. حلم السوري اليوم أن يجد طريقة يغادر بها سوريا ليلتحق بأفراد أسرته الذين سبقوه إلى أوروبا التي ناصبها جيل الماغوط يوما العداء.

عندما غادر الماغوط سوريا متجها إلى بيروت والشارقة لم يغادر بدافع حاجة أو إملاق. السوريون والماغوط معهم كانوا يغادرون ترفا وبحثا عن فرص للانتشار والشهرة أو للتحصيل العلمي.

ذاق الماغوط طعم الفقر في بداية حياته وعمل فلاحا، ولكن الفقر الذي ذاقه لا يقارن بالفقر الذي يتجرع مرارته السوريون اليوم. وخبر السجون أكثر من مرة، ولكنه سجن كانت الحياة داخل أسواره مقارنة بالحياة خارج تلك الأسوار اليوم، رحمة.

في بيروت، التي دخلها سيرا على الأقدام أواخر الخمسينات خلال أيام الوحدة بين سوريا ومصر، انضم إلى جماعة مجلة “شعر” حيث تعرف على الشاعر يوسف الخال الذي احتضنه بعد أن قدمه أدونيس إلى المجموعة.

لا تشابه بين لبنان الخمسينات ولبنان اليوم. كانت الحياة في لبنان الخمسينات تستطاب أكثر مما تستطاب الحياة في باريس ولندن حينها. كان التسكع على أرصفة بيروت بصحبة السياب متعة يومية. فيها تعرّف على الشاعرة سنية صالح، التي أصبحت في ما بعد زوجته، وهي شقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس، وكان التعارف سببا للتنافس على جائزة النهار لأحسن قصيدة نثر، التي فاز بها.

عاد الماغوط إلى دمشق وقد غدا اسما كبيرا صنعته بيروت، وعمل رئيسا لتحرير مجلة “الشرطة”، ولم تمانع السلطات حينها كتابته لمقالات ناقدة تحت عنوان “الورقة الأخيرة”.

والماغوط واحد من كبار من ساهموا في تحديد هوية وطبيعة وتوجه جريدة “تشرين” السورية الحكومية في نشأتها وصدورها وتطورها في منتصف السبعينات، حين تناوب مع الكاتب القاص زكريا تامر على كتابة زاوية يومية. وكذلك الحال حين انتقل ليكتب “أليس في بلاد العجائب” في مجلة “المستقبل” الأسبوعية، حيث كان لمشاركاته دور كبير في انتشار “المستقبل” في سوريا.

خلال الثمانينات سافر الماغوط إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى إمارة الشارقة بالتحديد، وعمل في جريدة “الخليج” وأسس مع الناقد السوداني يوسف عيدابي القسم الثقافي في الجريدة. خلال نفس الفترة كنت متواجدا في الشارقة وعلى بعد بضعة أمتار من مبنى جريدة “الخليج”، أعمل في مجلة “الأزمنة العربية”. هناك أمضيت ثلاث سنوات يمكن أن أصفها دون مبالغة بأنها أجمل سنين حياتي.

لن يتطلب الأمر من الماغوط أن يعيش تجربة السوريين التي عاشوها في العقد الأخير، ليكتشف أن المسرحيات التي كتبها، وإن نجحت جماهيريا، إلا أنها فاشلة فنيا، ولو أتيح له أن يتبرأ منها لفعل. ولا أعتقد أنه، لو كان حاضرا بيننا اليوم، سيوافق على تحويل مقالات من كتابه “سأخون وطني” إلى عمل مسرحي. صحيح أن الكتاب حظي بنجاح كبير لما احتواه من مقالات كتبها على مدى سنوات عمره. لكن الهموم اختلفت. وهي مقارنة بما نواجهه اليوم هموم مترفين بما فيها تجربة السجن.

السوريون اليوم ليسوا سوريي الأمس. السوريون الذين شاركوا الماغوط يوما هواجسه الوطنية وحلمه بالحرية تغيرت همومهم ومعها تغيرت طبائعهم. السوري اليوم مشغول بتأمين خبزه كفاف يومه

عبر الماغوط على قدميه من التراب السوري إلى التراب اللبناني، وهي بضع كيلومترات فقط، ليحقق الشهرة والنجومية ويحصد الجوائز. السوريون خلال السنوات العشر الماضية عبروا بالملايين آلاف الكيلومترات، ورموا بأنفسهم وأطفالهم في بحار مفتوحة بحثا عن كفاف يومهم.

معركة المواطن العربي اليوم تختلف عن معركة المواطن العربي قبل عشر سنوات، إنها معركة صنعتها أحداث مأساوية، بدأت بأحداث 11 سبتمبر وبالغزو العراقي للكويت وما تلاه من احتلال للعراق وهيمنة لإيران على لبنان، ومن ربيع عربي أسود، أبرز ضحاياه سوريا وليبيا والسودان واليمن، وإلى حد مّا، تونس ومصر.

ثم كانت الجائحة التي أكملت ما بدأه الجفاف والتصحر والربيع العربي. وأخيرا أتى الغزو الروسي لأوكرانيا وما رافقه من أزمة غذائية، لتقتنع آخر حفنة من المتشبثين بأوهامهم، أن قضيتنا اليوم لم تعد الوحدة، بل كيف نؤمّن رغيف الخبز.

معركة المواطن العربي اليوم ليست مع “حكام طغاة” بل مع كل هذا وأكثر.

هذا المقال لا يتحدث عن قيمة الماغوط كشاعر، فهي قيمة حفظها له التاريخ، لا تحتاج إلى شهادة. المقال يتحدث عن الماغوط الذي عاش كما عشنا جميعا حينها وهم الوطن الواحد.

إعادة إحياء “سأخون وطني” وتقديمها في هذه الوقت، هو موقف من سلسلة الانكسارات والانتكاسات التي يعانيها العربي اليوم.

فماذا نقول لمحمد الماغوط اليوم ونحن شهود على عصر صار الجوع فيه جزءا من همومنا؟

9