ماذا لو كان الحرص على الوطن كالحرص على الكرة

مباشرة بعد إعلان نهاية المباراة التي أقصت المنتخب الجزائري من استكمال مشوار الدورة الـ34 من كأس الأمم الأفريقية في كوت ديفوار، تفجر جدل صاخب على شبكات التواصل الاجتماعي وفي مختلف وسائل الإعلام، بينما فاض غضب الأنصار في مدينة بواكي، أين حاول العشرات اقتحام مقر إقامة عناصر المنتخب.
الكل يرغد ويزبد والغضب مشتعل في كل مكان، وكأن مصابا حل على رأس الناس، الذين حولوا المجموعة التي صنعت أفراحهم وأنستهم همومهم إلى شياطين تسببت في تعاستهم وحزنهم، وكأن كل شيء في البلاد يسير بدقة الساعة السويسرية، ولا ينقص إلا إنجازات كروية تزيد من منسوب المتعة والنشوة.
لا يختلف اثنان في أن للعبة مفعولا عجيبا في حياة الشعوب الفقيرة منذ أن ظهرت إلى الوجود، وأن النهج الليبرالي الذي يحاول الهيمنة عليها عجز إلى حد الآن في الاستحواذ عليها كما استحوذ على العديد من الرياضات، في ظل تمسك الفقراء بها والاستمتاع بنشوتها لنسيان الهموم اليومية.
لا ينكر أحد في الجزائر أن الذي رفع سقف الطموحات ورفع التحديات وأعاد للجمهور شغفه باللعبة والمنتخب هو هذا المدرب وهذه المجموعة من اللاعبين، فكيف يتحولون اليوم إلى "شياطين" و"سفراء تعاسة".
الرياضة عموما وكرة القدم تحديدا لم تعد مجرد لعبة في حياة الشعوب، بل هي سلاح ناعم يصنع توازنات هادئة ومرنة، وإذا كانت لدى البعض وسيلة دعائية واقتصادية ومصدرا لصناعة المتعة النفسية والذهنية، فإنها للبعض الآخر مرادف لشعارات سيادة الأوطان وشخصيتها ومسَكّن لتخدير الشعوب، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية على إيلائها الأهمية اللازمة والإمكانيات المتاحة، من أجل إلهاء شعوبها عن القضايا الحقيقية.
أناس من مختلف الأعمار والفئات يذرفون الدموع على خسارة أو إقصاء منتخباتهم أو فرقهم، وهو أمر يعكس العلاقة العجيبة بينهم وبين اللعبة، ويؤكد أن ما تصنعه كرة القدم يفوق بكثير ما تصنعه رياضات أو أنشطة أخرى في حياة المجتمعات، ولذلك بات نفوذها ونفوذ أصحابها يرجح الكفة لصالحهم أكثر من كبار الشخصيات الرسمية والأكاديمية والفنية، فأبسط رئيس اتحاد في بلاده هو أثقل وزنا وأكثر أهمية من وزراء بحقائب سياسية، وأما رئيس الاتحاد الدولي فهو أكثر نفوذا من أمين عام الأمم المتحدة نفسها.
لقد فشل أنطونيو غوتيريش في فرض أخلاقيات الأمم المتحدة ومبادئها، ولا يستطيع إلزام الأعضاء المنتمين للمنتظم بأي منها، بينما ترتعد فرائص الحكومات إذا غضب جياني أنفانتينو من أي منها، فـ”الفيفا”، الهيكل الوحيد في العالم الذي يفرض الانضباط واحترام القوانين على أعضائه.
شيئا فشيئا تسير كرة القدم لأن تصبح ظاهرة اجتماعية وذهنية معقدة تستدعي التوقف عندها من طرف المختصين، خاصة لدى شعوب العالم الثالث، بما أنهم مستعدون للتنازل عن أيّ شيء إلا هذه اللعبة، فتأخذ منهم كل شيء ويذرفون لها الدموع، ويتوشحون بسببها ثياب الأحزان.
في الجزائر وفّرت الحكومة والاتحاد إمكانيات ضخمة لأجل المنتخب مقارنة بالكثير من المنتخبات الأفريقية الأخرى المشاركة في “كان” كوت ديفوار، طائرة خاصة، نزل خاص، تعويضات محترمة، إمكانيات لوجيستية عصرية، راتب فلكي للمدرب، بينما سافر منتخب كرة اليد إلى القاهرة للمشاركة في منافسة قارية مماثلة، بإمكانيات محدودة، وهو ما يوحي أن العبرة ليست في الرياضة والشباب بقدر ما هي في إرضاء الجمهور العريض، لأن كرة القدم هي الأكثر شعبية مقارنة بكرة اليد أو أيّ من الرياضات الأخرى.
وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء الإقصاء المبكر، فإن الحدث صار رب ضارة نافعة بعدما كشف الحقائق وجعل الجميع أمام المرآة، وأول تلك الحقائق أن الشعوب لا تحيا بالكرة فقط، وأن الحرص المجنون على المنتخب فاق بكثير الحرص على الوطن، فالإقصاء الكروي يبقى في النهاية فشلا رياضيا فقط، أما الفشل والفساد اللذان ينخران القطاعات الأخرى فهما أدهى وأمرّ.
الحدث صار رب ضارة نافعة بعدما كشف الحقائق وجعل الجميع أمام المرآة، وأول تلك الحقائق أن الشعوب لا تحيا بالكرة فقط، وأن الحرص المجنون على المنتخب فاق بكثير الحرص على الوطن
صناعة التطور والمجد هو كل متكامل، وليس في كرة القدم فقط، فمن غير المعقول النجاح كرويا والفشل في مختلف المجالات، وليس من المعقول ولا من الصائب “ذبح” مدرب ومجموعة من اللاعبين وتحميلهم مسؤولية “خراب مالطا”، بينما مجموعات كثيرة في مختلف المستويات والمؤسسات لم تفشل فقط بل عاثت فسادا.
غريب أمر الشوفينية الجزائرية التي أخضعت مسار المنتخب لمعيار الوطنية والخيانة، فأن تدافع عن المنتخب فأنت وطني وابن وطنك، وأن تنتقد فأنت “سافل” و”ابن كلب”، والأغرب أن السجال الذي تجاوز الحدود الأخلاقية، كُشف هو الآخر، فالهجوم والتحامل على المدرب واللاعبين بسبب الإقصاء لم تقابله ولا كلمة لأولئك الفاشلين الفاسدين القابعين في أبراجهم، رغم أن الضرر الذي يلحقونه بالبلاد أكثر بكثير من ضرر الإقصاء الكروي.
لا ينكر أحد في الجزائر أن الذي رفع سقف الطموحات ورفع التحديات وأعاد للجمهور شغفه باللعبة والمنتخب هو هذا المدرب وهذه المجموعة من اللاعبين، وهو من لُقّب بوزير السعادة منذ أربع سنوات فقط، وهؤلاء هم من أخرجوا الملايين للاحتفال في الشوارع، فكيف يتحولون اليوم إلى “شياطين” و”سفراء تعاسة”.
أكيد أن أخطاء شابت مسار المنتخب في السنوات الأخيرة، والناخب هو المسؤول الأول عنها، وإذا كان لا بد من فورة وحساب فلا بأس في ذلك لأن ذلك سيكون سلوكا حضاريا ووطنيا وأخلاقيا، شريطة أن يقترن بفورة مماثلة أو أكثر منها لمحاسبة الفاشلين والفاسدين في مختلف المواقع والمؤسسات والمستويات، وما عدا ذلك فهو نفاق اجتماعي خطير وأخطر على الجزائر.
في بواكي الإيفوارية، وفي محيط النزل الذي حاول الأنصار اقتحامه، امتلك رئيس الاتحاد وليد صادي الجرأة والشجاعة وخرج لهؤلاء بصدر عار للحديث مع الغاضبين، وذلك ما تحتاجه الجزائر، شارع وناشطون وإعلام حريص على الوطن، وليس على المنتخب فقط، لا يكلّ من مطارد الفاسدين ومحاسبة الفاشلين، ومسؤولون بجرأة وشجاعة وليد صادي يواجهون الحقائق ويتخذون القرار المناسب.