ماذا لو فُرضتْ استراتيجية بيدرسون في سوريا؟

بيدرسون ومعه المتحمسون لمنهجيته لا يلحظون أن الثوابت التي كانت حتى وقت قريب عصيّة على الزحزحة هي في مهبّ متغيرات تعصف بالعالم وأن الملف السوري بات تفصيلا صغيرا في الخارطة الكبرى.
الخميس 2022/03/10
الملف السوري والتغيرات على الساحة الدولية

لم يكن البيان الذي صدر عن اجتماع مجموعة “أصدقاء سوريا” في العاصمة الأميركية واشنطن الأسبوع الماضي واضحا بما يكفي للقول إن الدول التي ضمّها اللقاء كانت تدعم المنهجية التي اقترحها المبعوث الدولي إلى الملف السوري غير بيدرسون، والتي يدعوها بـ”خطوة بخطوة”. فقد كان الترحيب بإحاطته متلازما مع تشديد البيان على أن المجموعة الدولية “تلحظ” جهوده وخطته، ولا توافق ولا ترفض، وفقا لرؤيتها، على أن يتم تطبيق القرار 2254 كاملا مع التأكيد على المحاسبة والمساءلة للمسؤولين عن جرائم الحرب بما فيها استعمال السلاح الكيمياوي ضد المدنيين.

والاستراتيجية التفاوضية التي يسوّق لها بيدرسون كان النظام السوري قد رفضها قبل أن ترفضها المعارضة السورية، ممثلة بالائتلاف السوري. كما أعلنت هيئة التفاوض رفضها لها وسلّمت بيدرسون مذكرة خطية وطالبت بإجابة مماثلة لم يستجب لها، بل وجه الدعوة لجولة جديدة من المفاوضات حول الملفات الدستورية في جنيف في النصف الثاني من مارس الجاري وسط أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا.

يبدو بيدرسون واثقا من وجود تفاهم دولي غير معلن حول “خطوة بخطوة”، فماذا لو نجح في فرضها كمسار أساسي لا هامشي يرسم مستقبل العملية التفاوضية، وكيف ستتم ترجمتها عمليا؟

لا يريد بيدرسون الإفصاح في الوقت الحالي، وحين يجري سؤاله، يقول إن منهجيته هي مجرّد عصف فكري ونقاش، ولا حاجة للتذكير بأن بطل اتفاقية أوسلو واثق كل الثقة بأنه لا يمكن المضي نحو حل ما بالاعتماد المجرد على قرار أممي، لم يسهل تطبيق أي من فقراته حتى اليوم رغم مضي الزمن، حاله كحال القرار 242 الخاص بالصراع العربي – الإسرائيلي. قرار تم الالتفاف عليه بفكرة من أفكار بيدرسون ذاته في يوم بعيد من أيام النرويج الغائمة الباردة.

لو ضغط الروس على الأسد وقرروا دفعه نحو دستور جديد، مترافقا مع انفتاح عربي وإقليمي عليه، فهذا الدستور سيواجه مشكلات حادة في كيفية تطبيقه في دولة تعيش حالة حرب منذ أكثر من عقد من الزمن

“خطوة بخطوة” تعني تقديم تنازلات متبادلة بين طرفي النزاع السوري، ولكن حتى يستقيم هذا الميزان، على المعادلة أن تكون واضحة بشكل جلي، فما يناقشه بيدرسون لم يعد مقتصرا على طرفين فقط، بل تعددت مراكز الصراع في سوريا، على الأقل محليا، قبل التفكير في الفاعلين الإقليميين والدوليين، بما يجعل من عملية تقديم التنازلات حفلا جماعيا واسعا. وكل تنازل سيقابله تنازل مماثل من نظام الأسد، في الطريق إلى فحوى القرار الدولي وإقامة هيئة حكم مشتركة، بين الجميع.

ستكون البداية من ملف العقوبات المفروضة على النظام، والتي سيقايض عليها مع ما يتم طلبه منه؛ الإفراج عن المعتقلين، على سبيل المثال، ولن يكون من الصعب على الأسد والروس المطالبة بفتح المعابر بين مناطق سيطرة الأسد والمناطق التي تسيطر عليها المعارضة في الشمال الغربي، دون التغافل عن وجود جبهة تحرير الشام والنصرة والقاعدة، وفي الشمال الشرقي ما يعرف باسم “قسد” التي تدار بصفقة هشة يشترك فيها الأميركيون مع الروس والأسد نفسه.

لكن تلك ليست نهاية المطاف، بل البداية وحسب. فقد يفرج الأسد عن العشرات وربما المئات من المعتقلين، مطالبا بالمزيد من “الخطوات” مقابل “الخطوات”، ماذا بعد معالجة المعابر؟ رفع العقوبات؟ إزاحة سيف “قانون قيصر” عن رقبته ورقبة داعميه؟ لن تفعل الولايات المتحدة ذلك، على الأقل ليس كاملا، فقد تبقي القانون المذكور مسلطا للاستعمال حين الحاجة، إلا أن انعكاس رفع العقوبات على الواقع الاقتصادي للنظام السوري لن يكون سطحيا، فهذا سينعشه من جديد، ولكن قبل ذلك سيكون عليه أن يقدّم بدوره “خطوة” غير موضوع المعتقلين، فماذا يمكن أن تكون تلك الخطوة؟ اعتماد نسخة دستور مشترك تنتجه اللجنة الدستورية المشتركة والمكونة من مبعوثيه ومن هيئة التفاوض ومن ممثلين عن المجتمع المدني؟

سيكون بيدرسون عند تلك اللحظة قد دخل منطقة حساسة للغاية، فدستور نموذجي، توافق عليه كل الأطراف، لن يكون سهل الولادة في ظل مماطلة النظام لأي تعديل من الممكن أن يؤثر تأثيرا جوهريا على بنيته.

هذا البُعد هو ما يراهن عليه الرئيس المشترك للجنة الدستورية هادي البحرة الذي يعتقد أن الروس سيجدون أنفسهم عاجزين عن إقناع الأسد بتقديم المزيد من التنازلات، هذا إن كانوا هم مقتنعين بها أساسا، خاصة بعد الواقع الروسي – الدولي الجديد إثر الحرب التي شنوها على أوكرانيا.

حسب البحرة، فإن الروس كانوا، حتى الشهر الماضي، سيغسلون أيديهم من الأسد بعد أن يحرجهم أمام العالم، غير أن هذه المعادلة أيضا، اختلفت اختلافا جذريا، فالروس لم يظهروا مكترثين بأي حرج عالمي حين غزوا أوكرانيا، وهم أبعد ما يكونون اليوم عن أي التزام بأي قرارات أممية ولا حتى بميثاق الأمم المتحدة، لاسيما المادة الثانية منه، حول سيادة الدول المستقلة، والتي يحرصون على تطبيقها في سوريا، ويخرقونها بجدارة في أوكرانيا.

يبدو بيدرسون واثقا من وجود تفاهم دولي غير معلن حول "خطوة بخطوة"، فماذا لو نجح في فرضها كمسار أساسي لا هامشي يرسم مستقبل العملية التفاوضية، وكيف ستتم ترجمتها عمليا؟

طريق مسدودة؟ كل شيء وارد، فمن الممكن أن يخرق أحد اللاعبين الكبار القواعد ويقرّر الانسحاب من تلك التفاهمات المسبقة، تفاهمات لم تصمد حول مستقبل أوروبا فلماذا ستصمد حول مستقبل سوريا؟

ولو ضغط الروس على الأسد وقرروا دفعه نحو دستور جديد، مترافقا مع انفتاح عربي وإقليمي عليه، فهذا الدستور سيواجه مشكلات حادة في كيفية تطبيقه في دولة تعيش حالة حرب منذ أكثر من عقد من الزمن، لاسيما إذا كانت من بين الخطوات المتبادلة؛ إعادة اللاجئين إلى بيوتهم، والحرب المشتركة بين النظام والمعارضة على كل من تم تصنيفها إرهابيا، بما في ذلك النصرة وبعض الفصائل المتشددة، وربما حتى حزب العمال الكردستاني، في حال استمرت العلاقة العضوية بين الأخير وبين ما تعرف باسم ”الإدارة الذاتية“.

ناهيك عن أن الإيراني يحاول، في هذه الأثناء، الظفر باتفاق نووي جديد قبل فوات الأوان، في هذه الظروف العالمية الجديدة التي لا يريد لها أن تُحسب عليه، ما سيجعله يحاول إبعاد نفسه عن الصراعات الكبرى قدر الإمكان، وليس تصريح النائب الإيراني أبوالفضل عمويي في الأيام الماضية، حول الضمانات التي طلبتها روسيا من الولايات المتحدة في فيينا والقول إنه لا علاقة لإيران بها، وأنها جزء من خلافات البلدين، إلا جزء من هذا السياق. أما الاتفاق الجديد فقد بات شبه جاهز. واتفاق نووي إيراني جديد سيعني مناخا جديدا لحل الخلافات الإقليمية العالقة ومن بينها الوضع السوري.

كل هذا سيعني دخول الملف السوري في حالة من عدم اليقين، بحيث لا يمكن التنبؤ بما سيحدث لاحقا، لكن السؤال الذي لا بد وأن بيدرسون يفكّر فيه طيلة الوقت؛ ما هو الحل البديل لتحريك الأحجار غير ما سلف ذكره؟ وكيف سيكون بوسعه المضي قدما من غير إحداث ثغرة في الجدران المحيطة به من كل جانب؟ وإلى متى سيبقى هو على رأس عمله دون أن يعلن يأسه كما فعل من قبله كل من كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي وستيفان دي مستورا؟

اللافت أن بيدرسون ومعه المتحمسون لمنهجيته لا يلحظون، كما فعلت مجموعة “أصدقاء سوريا”، أن الثوابت التي كانت حتى وقت قريب عصيّة على الزحزحة، هي في مهبّ المتغيرات الثقيلة التي تعصف بالعالم اليوم، والملفُّ السوري كلّه بات تفصيلا صغيرا في الخارطة الكبرى.

9