ماذا فعلتِ بي

السبت 2016/05/14

“ماذا فعلتِ بي؟”، هكذا أجاب الممثل الأميركي توم هانكس على سؤال لمقدمة برنامج في إذاعة أميركية، بعد أن قالت له؛ “كيف كانت سنوات طفولتك المبكرة؟”. كان والدا هانكس قد انفصلا وهو في الخامسة من عمره، وكل ما كان يتذكره من تلك الأيام العصيبة، بعد أن جاوز سن التاسعة والخمسين من عمره الآن، هو شعوره بالوحدة وبأنه كان طفلا ممزقا من الداخل تتقاذفه أمواج صاخبة من الغضب والحزن والتمرد.

وقال النجم المحبوب صاحب “فيلاديلفيا” و”الميل الأخضر”، بأنه تنقل بين خمسة منازل في خمس مدن مختلفة هو وأشقاؤه قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، بسبب انفصال والديه وزواج والده بامرأة أخرى وحرمانه من والدته سنوات طويلة.

وأضاف “كنت في حيرة من أمري لما كان يجري، فلم يقف شخص ليفسر لي الأمر ولم يقل لي أحد بأن ما حدث لم يكن ذنبك”. وكان شعوره ذاك بالوحدة دافعا لبحثه عما يحمل له الأمان في حياته، سعى إلى ذلك بكل قوته حتى وجد نفسه في فن التمثيل والكتابة، لمع نجمه سريعا حتى لاحقته الجوائز فمن جائزة الأوسكار إلى إيمي إلى الغولدن غلوب، لكنه اليوم تلعثم أمام سؤال مقدمة البرنامج الإذاعي وارتبك لأنها جعلته يعود إلى الطفل الوحيد في داخله الذي تركته تجربة انفصال والديه كائنا ممزقا لم تستطع الأيام أن تلأم جراحه.

تمثل السنوات الأولى من حياة الطفل أهم مراحل حياته وأكثرها حرجا، فهي التي تشكل الأساس لنموه الانفعالي والاجتماعي؛ علاقته بالآخرين في محيطه، مشاعره التي يعبر عنها بالخوف أو الحب أو الثقة وحاجته إلى الاهتمام وغيرها، ففي هذه المرحلة العمرية يحاول الطفل أن يستكشف عالمه المليء بالأشخاص والأحداث، فإن لم يجد ما يشبع حاجاته النفسية ويجابه بالرفض من قبل الآخرين ويعيش حالة ضياع وتشرد وخوف، فإنه سينشأ كائنا مضطربا نفسيا أو معاديا للمجتمع الذي رفضه والظروف التي عذبته، فيبدو العالم بالنسبة لهذا الطفل مكانا مرعبا؛ الإحساس بالظلم، الإذلال، الخوف من الموت، الخوف من العزلة والوحدة والخسارة ومن تخلي الآخرين عنه.

في لوحة “القيامة”، كما وصفها بعض الذين مروا على فاجعة تفجيرات بغداد الأسبوع الماضي، بدت صورة الأم الفارّة من الموت أو الباحثة عن أحباء لها غيبهم الموت وسط ركام من الجثث والدماء التي نزفت من أجساد طاهرة، لسوق شعبية وسط مدينة الثورة (الصدر)، شرق بغداد، بدت هذه الصورة أشبه بلوحة سوريالية كان يعوزها النظام والمنطق، فكانت تجمع بين حقيقة مفزعة وخيال صاخب التقطها مصور نصف نائم ونصف ميت.

العديد من ضحايا هذا الانفجار أطفال في مختلف الأعمار، أغلبهم باعة متجولون كانوا يتحايلون على الفقر للفوز بـ”سلة غذاء” تقي أسرهم شرّ الجوع، ومثلهم أمهات خرجن من منازلهن في صباح باكر لشراء بعض الطعام ولم يتسن لهن العودة، لكن السيدة الفارّة من الجحيم التي التقطتها اللحظة- الفاجعة بدت وكأنها معلّقة في الفراغ تتنقل بين عالمين أحدهما ميت والآخر لم يولد بعد، هذه السيدة- اللوحة كانت لحظة متوقفة في جوف زمن قبيح تموت فيه الأمهات ألف مرة، ليتركن خلفهن في منازل متهالكة وجوها صغيرة لملائكة تحدّق في الفراغ وتنتظر عودتهن من دون طائل.

كم من الأطفال الأبرياء حدّقوا في وجه الفراغ في ذلك اليوم الرهيب، وكم من علامات الاستفهام ماتت على شفاه بريئة ولم تجد من يربت على وحدتها وحيرتها، وكم من يتيم أخرسه الموت فلم يستطع أن ينطق ولو لمرة واحدة “ماذا فعلتِ بي.. أيتها الأقدار؟”.

كاتبة عراقية مقيمة بلندن
21