مات الرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو.. تحيا البدانة

فنان واجه العالم بآثامه وثار على المفاهيم الجمالية الراسخة.
الجمعة 2023/09/22
عالم الفنان نوع من خيال الواقع

في الخامس عشر من سبتمبر 2023 فقد الكولومبيون واحدا من أهم فنانيهم على الإطلاق، الرسام والنحات فرناندو بوتيرو، الذي فارق الحياة في إمارة موناكو الفرنسية تاركا إرثا فنيا سيبقى خالدا ومؤثرا، حتى أن مدينة ميديلين الكولومبية أعلنت سبعة أيام من الحداد على ابنها الذي وُلد فيها في عام 1932، والذي قدّم للفن المعاصر تجربة استثنائية لم تركن إلى مدرسة فنية بعينها، ولكنها تبنت صوت الإنسان في كل مكان.

قبل سنوات صارت المرأة النحيلة جدا هي رمز الرشاقة والجمال والخفة بحيث صرنا نرى عارضات الأزياء أشبه بهياكل عظمية غُطيت بقليل من اللحم الشفاف. مشهد مثير للشفقة لمَن تمكن منه قول الأعشى في وصف حبيبته “غراء فرعاء مصقول عوارضها/تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحلُ” وهو يقصد أن حبيبته تمشي بتثاقل بسبب سمنتها كما يمشي الإنسان في الوحل. وقد قالت العرب إن المرأة السمينة هي الأجمل بين النساء.

المرأة البدينة

استعادة عذابات البشر
استعادة عذابات البشر

ليست النسبة الذهبية التي توصل إليها ليوناردو دافنشي مرغوبة دائما على صعيد التمييز بين المرأة الجميلة وسواها من النساء، فلكل رجل كما يُقال ذائقة جمالية تستند إلى تجربة خاصة. فبالرغم من كل الحراك الإعلامي الذي يدعو إلى اتباع أساليب تحدّ من البدانة وتُظهر محاسن الرشاقة هناك من الرجال مَن يفضل المرأة الممتلئة على الأخريات ويرى فيها جمالا من نوع أخّاذ مختلف.

كان فرناندو بوتيرو الرسام الكولومبي الذي مات قبل أيام عن عمر ناهز 91 عاما واحدا من أولئك الرجال. كانت المرأة البدينة علامته المميزة التي دخل من خلالها إلى المشهد الفني وصارت لوحاته تُباع بأسعار خيالية بعد أن أقامت المتاحف العالمية الكبرى معارض شخصية له وصارت المزادات الفنية تتنافس على بيع أعماله بأعلى الأسعار.

إلى نهاية حياته رفض بوتيرو أن يدافع عن خياره الجمالي لئلا يشعر الآخرون بأنه يخوض معركة خاصة ضد جبهات الريجيم ودور الأزياء ومؤسسات الإنتاج السينمائي وشركات الأدوية والمستشفيات التي يقوم أطباؤها بالعمليات التي تؤدي إلى إنقاص الوزن مثل قص المعدة أو تضييق فوهتها.

وبالنسبة إلى بوتيرو كانت المرأة البدينة هي المادة الجميلة التي ينبعث من خيال جسدها إلهامه الفني. ربما كان يفكر بالطريقة التي كتب من خلالها محمود درويش قصيدته “الجميلات هن الجميلات”.

وبالرغم من اختلافه الجمالي الذي قد يكون قد ألحق ضررا بدعاة الرشاقة باعتبارهم تجارا في السوق الثالثة الأكثر ثراء بعد سوقي السلاح والمخدرات فقد صار لبوتيرو معجبون ونقاد منحازون لفنّه عبر العالم.

 وقف ابن مدينة ميديلين الكولومبية الشهيرة في عالم المخدرات في مقدمة المشهد الفني للقرن الحادي والعشرين. وكان فنه مزيجا من أساليب القرن العشرين، غير أنه كان حريصا على أن يكسبه طابعه الشخصي من خلال المرأة البدينة التي أحب أن يعلن من خلالها اختلافه.

وقع المصيبة

فنان رفض أن يدافع عن خياره الجمالي
فنان رفض أن يدافع عن خياره الجمالي

إلى عام 2004 كان بوتيرو منغمسا في عالمه الذي هو نوع من خيال الواقع إلى أن اكتشف أن الواقع ينطوي على خيال مختلف هو من النوع العدواني المريض الذي سيكون من شأنه أن يقتلع الجمال الإنساني من جذوره.

 لقد صدمته فضيحة أساليب التعذيب الأميركي في سجن “أبوغريب” بالعراق. لقد أدرك الرسام العالمي يومها أن الرسم بكل خياله لا يمكنه أن يرتقي إلى مستوى الصور التي صارت تغذي خيال الألم الإنساني بتفاصيلها.

 يومها لم يفعل بوتيرو شيئا سوى أنه رسم تلك الصور. لامه البعض لأنه لم يتجاوز الصور الفوتوغرافية ليرسم لوحاته الخاصة. ولكن ذلك اللوم كان نوعا من السخرية. بالنسبة إليه كان وقع المصيبة أكبر من التفكير في الفن. شعر بوتيرو يومها أن العذاب الإنساني قد وصل إلى أقصى مراحله كما أن همجية عصرنا قد تجلت بأسوأ مظاهرها.

ممثلا لإنسانية معذبة

عالم بوتيرو الساحر
عالم بوتيرو الساحر

ما يهم هنا أن بوتيرو كان هو الفنان الوحيد في العالم الذي تصدى لتلك المأساة التي امتزجت من خلالها كارثة الاحتلال بعذاب شعب مقاوم. تعذب الرسام بكل تأكيد وهو يعيد رسم تلك المسرحية الحزينة التي استنزفت آخر ما تملكه الإنسانية من قوة، بعدها سيواجه الإنسان العدم.

يعرف بوتيرو أن رسومه لن تعيد الكرامة إلى سجناء “أبوغريب”. لن تعوضهم رسومه ما فقدوه وهو لن يكون قادرا على وصف عذاباتهم للعالم، غير أنه يعرف في المقابل أن لوحة تحمل توقيعه لا بد أن تصنع تاريخا بعد أن تأكد من أن بديناته سيقفن يوما ما إلى جانب أفروديت وكليوبترا والموناليزا.

انتظر بوتيرو أن يعترف به العالم ليفرض بديناته الجميلات على الذائقة الجمالية ولكنه في اللحظة الجارحة قرر أن يواجه العالم بآثامه كما لو أنه يجري عملية تصفية حساب أخيرة.

لقد قرر بوتيرو أن يكون ممثلا لإنسانية معذبة لن تجد لها ملاذا في المؤسسات الدولية. الفن هو الملاذ الأخير للإنسانية. يوم رسم النساء البدينات كان بوتيرو ينحني أمام جمال لن تستغني عنه الإنسانية.

فن بوتيرو كان مزيجا من أساليب فناني القرن العشرين غير أنه كان حريصا على أن يكسبه طابعه الشخصي
فن بوتيرو كان مزيجا من أساليب فناني القرن العشرين غير أنه كان حريصا على أن يكسبه طابعه الشخصي

13