ماء تشرين

عاشت هذه الشهور، بأسمائها القديمة، دهوراً مع العرب، تشاركهم دورات الشمس والشتاء والصيف، حتى باتت كائنات لها حصتها من ذاكرتهم ويومياتهم وما تزال تواصل إيناسها لهم في لياليهم ونهاراتهم الطويلة.
بها يؤرخون مواسمهم، ومن طبائعها يشتقون صفات بعضهم البعض. ثم جاء من بعد ذلك من أرادوا استغلال علاقة العرب بتلك الشهور، ويروى أن إيرانياً زار بغداد لأول مرة في حياته، وكانت زيارته تلك في مثل هذه الأيام من شهر تشرين، أوله وثانيه، فرأى فيها العجب، ومما رآه كان نهر دجلة، اقترب منه واغترف من مائه براحَتَيْ يديه وشرب حتى روي ولم يمنعه أحد.
ثم فكّر لحظة وقال بالفارسية ”حيسفت أرب. أب تشرين خورند“ أي ”حسافة على العرب، تشرب من ماء تشرين“. وكانت قد أعجبته عذوبة ماء النهر التي لم يذق مثلها في بلاده، فحسد العرب عليها، واستكثرها عليهم.
في الجهة المقابلة، كان العرب يستعملون شهر تشرين للتعبير عن الفخر وكي يقولوا إن رجالهم قادرون على خوض مائه رغم غزارته وكثرة أمطاره.
انظر إلى فارق الخيال.
لنبق في فضاء الأمثال الشعبية، قالت العرب متأملة بعض الدفء في ذروة البرد ”بين تشرين وتشرين صيف ثان“، وقالت ”في تشرين ودّع العنب والتين“، وكذلك ”من لم يشبع من العنب والتين فليشبع من ماء تشرين“، و“لا أنقى من قمر تشرين. ولا أعتم من غيم كانون“.
ثقافتان مختلفتان كل الاختلاف. إحداهما تريد قطع الماء في الأنهار وفي الآبار وحتى السماوات. وهو ما تفعله اليوم في العراق. والأخرى تتأمل جمال الوقت وانعكاسه على الطبيعة.
صراع الاختلاف بين الثقافات ليس جديداً، ويعود إلى أسباب عديدة، إلا أن المنتصر فيه بالنهاية لن يكون الحاسد، بل المشارك في التداخل الذي يغني الآخر ولا يجعله يتآكل، لأنه لن يتآكل ولن يذهب إلى أي مكان، كما بقيت الثقافات القديمة مستمرة إلى زمننا هذا في اليونان ومقدونيا وأميركا اللاتينية وأقصى الأرض شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، بنهرٍ يجري ماؤه عذباً فراتاً، أو بآخر جفّت عروقه.
ولأن الزمن ملويٌ كورقة مترابطة، يصل أولها إلى آخرها، يعيش البشر كل شيء في كل لحظة، ومن يعاند ذلك يجد نفسه مُناطحاً للحقيقة، وسرعان ما ستتحطم قرونه على صخورها.
تجد ذلك في كل ما حولك، بقصاصة من ذهب الورد، أو بمدونة بريئة كتبها مجهول على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في أغنية قديمة أو جديدة، لا فرق. فعندنا كلُّ ماء يهطل من سماء تشرين حول العالم سيروي الجميع بلا تمييز.