مئتا عام ولا تزال "رحلة حول غرفتي" كتابا يتجاوز زمنه

ربما كان غزافيي دوميستر من أوائل الكتّاب الذين غامروا بالكتابة عن رحلتهم في أعماق ذواتهم، هناك يحللون الأفكار والذكريات والتصورات وغيرها، ومن هناك يعيدون تقييم ذواتهم لا في عزلتها وإنما في تقاطعها مع عوالمها من أفكار ومفكرين ورؤى وكتابات وغيره.
يعود تاريخ صدور الرواية القصيرة “رحلة حول غرفتي” لغزافيي دوميستر إلى القرن الثامن عشر، وتحديدا عام 1794، وهو التاريخ الذي ترك فيه المخطوطة في لوزان مع أخيه الأكبر جوزيف، الذي تولى مسؤولية نشرها في عام 1795، حيث حققت نجاحا حتى طبعت أكثر من مئتي طبعة قبل عام 1914، وتأثر بها مبدعو القرنين التاسع عشر والعشرين.
ولا تزال الرواية مؤثرة حتى الآن لأصالة وعمق فكرتها وجمالية معالجتها الفنية والأسلوبية، فهي على قصرها تشكل رحلة فلسفية حيث يستدعي خيال المؤلف رؤى أعظم الفلاسفة والعلماء.
تأملات ولقاءات
تعتبر الرواية من روائع ما كتب دوميستر، حيث تدور أحداثها حول ضابط شاب، تم القبض عليه في قلعة تورينو، حكم عليه بـ42 يوما تحت الإقامة الجبرية في غرفته، وذلك نتيجة إجرائه مبارزة غير قانونية. هذا الحبس المفروض هو ذريعة لقصة رحلة سفر ساخرة حول غرفته في 42 فصلا قصيرا، حيث خادم المؤلف وكلبه والأشياء المختلفة من حوله تلهم تأملاته وتسترجع ذكرياته وتطلق عنان رؤيته للنفس والعقل والروح والجسد والموت والحياة والإخلاص والخيانة والصداقة والعداء.

أيمن حسن: "رحلة حول غرفتي" يتجاوز بكثير ما يسمى بأدب الرحلة
من بين المراحل الرئيسية لهذه الرحلة التوقف أمام المكتبة ومحاورة فلاسفة ومفكرين، واستراحة تأملية أمام السرير، ولقاءات متعددة مع الصور.
هذه الرواية القصيرة ترجمها وقدم لها الشاعر التونسي أيمن حسن وفازت عام 2022 بجائزة ابن بطوطة وصدرت عن دار المتوسط، جاءت المقدمة التي عنونها بـ”اللذة المزدوجة” موضحة الأجواء والأفكار التي أحاطت بترجمتها، لتنطلق بعد ذلك لإلقاء الضوء على تجربة الكاتب وأهمية الرواية.
يقول حسن “ولد مشروع هذه الترجمة كالكثير من الأمور الجميلة من حوار شيق مع شاعر عربي عزيز على قلبي وفكري في الآن ذاته. كان ذلك خلال الفترة الأولى لجائحة كورونا، حيث كان يعيش هذا الصديق الحجب الصحي في إحدى العواصم الأوروبية، وكنت كما أنا اليوم في مدينة الحمامات التونسية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. كان حديثنا عن الشعر والمهرجانات والرحلات المنقطعة بسبب ما يشهده العالم. وانتبهنا في خلاصة حديثنا إلى أن البشر لا يعون قيمة ما يعيشون إلا عندما يحرمون منه.”
ويضيف “في هذا الخضم، سألني صديقي إن كنت أعرف غزافيي دوميستر، لأن محررا يعمل معه في المجلة التي يديرها أرسل له مادة عن هذا الكاتب غريب الأطوار، وهو صاحب كتاب وحيد شهير تحت عنوان ضارب في الطرافة ‘رحلة حول غرفتي’. كان ردي عليه بالفرنسية بما يعني: قد لا تصدق أنني أولي هذا الكاتب ونصه حبا كبيرا إلى درجة أني أملك في مكتبتي طبعتين للكتاب نفسه. وهنا أعقب صاحبي بذكائه المعهود قائلا ‘حرام عليك، تحدثني بالفرنسية كي تشعرني بالنقص! هيّا، ترجم هذا الكتاب إلى العربية، ليستفيد منه الجميع’.”
ويضيف “لست أدري كيف اندفعت بتلقائية لا مثيل لها، لكن اليوم وبعد انتهائي من الترجمة، تبدو كلمات رولان بارت عن ‘لذة النص’ وراء هذا الحماس الذي ما انفك يلهمني ويراودني طوال اشتغالي على هذا النص الممتع والشيق والصعب في الوقت نفسه: ‘لذة النص هي تلك اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة ـ لأن ليس لجسدي أفكاري نفسها’. فعلا تعبر هذه المقولة ومحتوى كتاب رولان بارت كله عن هواجسي كشاعر وكمترجم، خاصة وأني في هذا السياق أتبع جسدي في حركة معاكسة، أي أني عوض أن أترجم كالمعتاد من العربية إلى الفرنسية وجدت نفسي أسافر في اللغة انطلاقا من نص يتحدث عن الحرمان من السفر أو استحالة فعل التحرك والتنقل بصفته عادية كما كنا ولازلنا نعيش تحت وطأة جائحة كورونا.”
ويقول حسن “كما سنقرأ في ‘رحلة حول غرفتي’، عاش دوميستر نوعا من ‘الحجر’. هذا على الأقل ما تقوله الأستاذة فلورانس لوتوري التي اعتنت سنة 2003 بنشر وتقديم وتحقيق الكتاب في سلسلة غارنيي فلاماريون الموجهة إلى الطلبة. فلقد اعتمدنا هذه الطبعة دون غيرها لأسباب متعددة، أولها أن صاحبة العمل جامعية مرموقة في كلية باريس ـ 8 ديدرو حيث تدرس أدب القرن الثامن عشر الذي ينتمي إليه المصنف، كما أنها من خلال الملف الذي وهبتنا إياه والهوامش التي وضعتها تكشف عن رغبة بيداغوجية كبيرة في مشاركة القارئ متعة هذا النص البسسيط والمتشعب، السعيد والحزين، الثابت والمتحول في الآن ذاته.”
ويلفت المترجم إلى أن أغلب الهوامش التي يطلع عليها القارئ في الترجمة العربية هي من وضع لوتوري، وهي ذاتها تعتمد شواهد الطبعة النهائية للكتاب حسب تعليمات غزافيي دوميستر نفسه سنة 1839، كما تنوه بالاختلافات مع الطبعة الأولى للكتاب سنة 1795. وارتأينا أن نضيف مجموعة من الهوامش لإضفاء المزيد من الوضوح والمقروئية على النص العربي.
ويتساءل حسن “ما الذي يثير الاهتمام في كتاب ‘رحلة حول غرفتي’؟ ولماذا يبدو لنا العنوان أشهر من المحتوى ومن الكاتب ذاته؟ للرد على هذه الأسئلة، يجب أن ننطلق من حياة الكاتب غزافيي دوميستر. في الحقيقة، بالرغم من شهرة هذا العنوان، فإن أخاه الأكبر معروف أكثر منه. يعد جوزيف دوميستر (1753 ـ 1821) من الشخصيات الأدبية والفكرية الهامة في فرنسا وأوروبا، فهو كما كتب عنه سيوران الممثل الأول لما يسمي ‘الفكر الرجعي’ والمنظر اللاذع لـ’الثورة المضادة’ وأحد أعداء فولتير وفلاسفة الأنوار على حد السواء.”
ويواصل “من هذا المنطلق، يعد أبا للفكر اليميني ومنظره الصارم، من خلال تحليله للعلاقة التي يجب أن تقوم بين الدين والسياسة وبين النظام الملكي والكنيسة والرعية. فهو صاحب كتاب ‘عن البابا’ و’أمسيات سانت بطرسبرغ’ وغيرهما من الكتب التي أثرت تأثيرا كبيرا على الشاعر الكبير شارل بودلير الذي يقر في أماكن عدة بشغفه بالرجل الذي ـ على حد قوله ـ علمه كيف يفكر”.
ويوضح أن غزافيي دوميستر ولد في الثامن من نوفمبر عام 1763 في مدينة شامبيري في منطقة السافوا التي كانت آنذاك تابعة لمملكة سردينيا، وتقع هذع المنطقة جنوب شرقي فرنسا في جهة نهر الرون وجبال الألب. هو الابن الثاني عشر في عائلة تكونت من خمسة عشر طفلا، بقي منها على قيد الحياة خمس إناث وخمسة ذكور. كان والده فرنسورا ـ غزافيي دوميستر شخصا مهما، فلقد كان يرأس برلمان الجهة. توفيت والدته ماري كريستين دي موتز وهو في سن العاشرة، ولعب أخوه الأكبر جوزيف دور العراب، وأثر فيه وفي اختياراته المستقبلية.
تلقى الطفل دروسا في الفرنسية وفي الرسم، نجد صداها في كتاب “رحلة حول غرفتي”. لم يبلغ الثامنة عشرة عندما التحق في 13 يونيو 1781 بسلك المشاة من فوج البحرية الملكية في الإسكندرية بإيطاليا، ثم تمركز هذا الفوج بمناطق ومدن عدة مثل شامبيري وبينيورل وفوناسترال وتورينو. وفي 6 مايو 1784، عاش غزافيي دوميستر تجربة فريدة من نوعها، إذ تطوع للقيام بصعود على متن منطاد هوائي، وكان ذلك حدثا استثنائيا في المنطقة كلها، إذ قام الأخوان منغولفيي بتجاربهما الأولى بضعة شهور قبل هذا التاريخ. يتميز الرجل بروح رحالة ومكتشف لا يعرف الخوف طريقا إليه.
ويلفت حسن إلى أن غزافيي دوميستر عاش تجارب كثيرة خاصة في بلدة أووست أسفرت بعد ذلك عن كتابة نصوص مثل “أبرص مدينة أووست” 1811، وهو يشبه في تركيبته نص “رحلة حول غرفتي” بما أن الكاتب يروي قصة رجل مصاب بالبرص يعيش حجرا في قلعة، ويتذكر أيام حياته السعيدة. ألهمت هذه الأحداث القصصية وحياة الكاتب في منطقة أووست الأكاديمي الفرنسي أصيل منطقة السافوا هنري بوردو كتابا بعنوان “قصص حب غزافيي دوميستر في أووست” الصادر عام 1931.
وفي السابعة والعشرين غداة كرنفال تورينو في الأول من يناير 1790 خاض غزافيي دوميستر مبارزة مع ضابط من منطقة البييمونت الإيطالية يدعى باتونو دي ما يران. يبدو أن الإهانة كانت حقيقية، ولكن الأمر لم يكن يستحق هذا العناء كله. خرج غزافيي دوميستر منتصرا من المبارزة التي لم تكن الأولى في سجله، لكن غريمه بقي على قيد الحياة، وغذى تجاهه ضغينة شرسة. حكم عليه إذا بالحجر لمدة اثنين وأربعين يوما في غرفته بقلعة تورينو، حيث شرع في كتاب نصه الأشهر “رحلة حول غرفتي” الذي لم ينته منه إلا في مدينة أووست عام 1794، وخلال زيارته إلى أخيه الأكبر جوزيف، في مدينة لوزان السويسرية، أطلعه غزافيي على نصه الذي نال إعجابه الشديد، فقرر نشره عام 1795 دون إعلامه بذلك.
رحلة مختلفة
يوضح حسن “هذه هي قصة هذا الكتاب الذي جعل من صاحبه أسطورة أدبية في فرنسا وفي أوروبا، إذ يعد الكثيرون من الشعراء والكتاب والنقاد أمثال ألفونس دو لامرتين وأناتول فرنس وسانت بوف ‘رحلة حول غرفتي’ حدثا أدبيا هاما، لأنه يمثل نقطة تقاطع بين أزمنة وأحداث وأفكار وتمثلات مختلفة وربما متضاربة، فمن جهة يمكن عد الكتاب لحظة فريدة من نوعها من خلال جمعها بين عقلانية فكر الأنوار الذي هيمن على القرن الثامن عشر والرومنطقية التي ستولد في أواخر التسعينات من هذا القرن وبداية القرن التاسع عشر.”
◄ من بين المراحل الرئيسية لهذه الرحلة التوقف أمام المكتبة ومحاورة الفلاسفة والاستراحة التأملية أمام السرير واللقاءات المتخيلة
كما يمثل غزافيي دوميستر، وفق المترجم، نقلة نوعية بصفته سافوائيا يكتب بالفرنسية، فهو يعلن عن إدماج هذه المنطقة إلى الجمهورية الفرنسية بعد الثورة عام 1792. ولهذا السبب سيموت الرجل كأخيه الأكبر في الغربة، حيث سيوافيه الأجل في 12 يونيو 1852 في مدينة سانت بطرسبرغ وهو يرقد في مقبرتها اللوثرية التي تستقبل رفات الأجانب غير الأرثوذكسيين من كاثوليك وبروتستانت.
ويرى حسن أنه زيادة على ذلك يحمل أسلوب غزافيي دوميستر بوادر التجديد والحداثة، وربما ما بعد الحداثة، فإن الكاتب الإيرلندي الناطق بالإنجليزية لورانسستارن صاحب كتاب “الرحلة العاطفية عبر فرنسا وإيطاليا” الصادر عام 1768 نجم عصر غزافيي دوميستر وربما مرجعية له، فإن “رحلة حول غرفتي” يتجاوز بكثير ما يسمى بأدب الرحلة، ويفتح أفقا لنوع جديد من الاكتشاف، يمكننا التعبير عنه بعبارة “الاستكشاف الباطني”، كما سنرى ذلك في بداية القرن العشرين مع تيار الوعي بفضل كتاب أمثال فرجينيا وولف وجيمس جويس.
ويتابع “نعم، يعلن أسلوب غزافيي دوميستر عن هذه الحداثة والأمثلة في كتاب ‘رحلة حول غرفتي’ أحيانا من خلال الحلم وحينا عبر التأمل، ناهيك عن الاستقصاء الكامل في الزواج الفرويدي قبل وقته الجسد ـ الآخر/ الروح. لكن حسب رأينا، تبقى ‘البوليفونيا’ أو تعدد الأصوات من أهم ميزات هذا الأسلوب الذي يجمع بتناسق فريد بين الجد والهزل، بين التأمل في الناس وفي ذات الرجل نفسه، بين معاشرة البشر واختبارهم والكشف عن إنسانية الحيوان أو على الأقل عن قيمة الحيوان في توازن الإنسان.”
ويلفت إلى أن من علامات تعدد الأصوات، سيلاحظ القارئ إطناب غزافيي دوميستر في استعمال علامة الترقيم المتمثلة في المطة الطويلة (ـ)، فهي تعلن حينا عن استهلال حوار، وحينا عن تغيير في نبرة الحديث أو الخطاب، وفي حالات أخرى تكشف عن شخوص وطبائعها كما صورها الكاتب الأخلاقي الفذ جان دي لابرويير.
ربما تكمن هنا حداثة هذا النص: التصق صاحب “رحلة حول غرفتي” بموضوعه، أي بنفسه، فالرحلة الحقيقية والاكتشافات المنشودة لم تعد كتلك التي قام بها ماركو بولو وكريستوف كولومبس وماجلان ودارك وأنسون وكوك وغيرهم، وهي لا تحتاج إلى سفن وطاقم متكون من بحارين ومعدات ذات تكلفة، بل، كما وصفها غزافيي دوميستر، تحتاج إلى مكتب وأقلام وحبر وأوراق للكتابة. كما كتب أناتول فرانس عن غزافيي دوميستر عام 1878 وهو في سن الثالثة والثلاثين “تخيلوا كيف أن أصدقاءه في محله كانوا قد شربوا ودخنوا وتثاءبوا. لكن كان لغزافيي موارد أخرى ضد الوحدة. كان ذكيا، فكر في ألف شيء بطريقة متقلبة، وبعد ذلك كتب أفكاره. عندما كان ديكارت في خدمة موريي دو ناسوكان يملأ فراغ أيامه كجندي بالطريقة نفسها لكن بحزم لا يقارن”.
