"لي".. فيلم يخط السيرة الذاتية لميلر صحافية الحرب التي عاشت جحيم هتلر

تحدت إليزابيث ميلر (لي ميلر) القيود الذكورية وتحولت من عارضة أزياء إلى مراسلة حربية وثقت بعدستها أهوال الحرب العالمية الثانية وأصبحت واحدة من أشهر صحافيي الحرب في العالم، حتى أن سيرتها استفزت المخرجة إلين كوراس لتخرجها في فيلم يروي سيرتها الذاتية وكواليس لم تنشر سابقا، تركتها ميلر في مذكراتها الشخصية.
تستعرض أحداث فيلم “لي” للمخرجة إلين كوراس قصة درامية بريطانية لسيرة حياة الصحافية الشهيرة لي ميلر خلال الحرب العالمية الثانية، وهو من إنتاج عام 2023، وسيناريو ليز هانا وجون كولي وماريون هيوم. واستندت قصة الفيلم إلى السيرة الذاتية التي نُشرت في عام 1985 بعنوان “حياة لي ميلر” من تأليف أنطوني بنروز.
الفيلم من بطولة كل من كيت وينسلت في شخصية لي ميلر الصحافية التي تركت بصمة قوية في مجال الصحافة الحربية، ويشاركها في التمثيل جوش أوكونور وألكسندر سكارسجارد وأندريا رايزبورو وآندي سامبيرج وماريون كوتيار.
تبدأ افتتاحية الفيلم بعرض مشهد حادّ لميلر وهي في خضم الحرب، تحاول توثيق الأحداث وتلتقط لحظات صادمة للمعاناة الإنسانية وسط الدمار، بينما تقودنا تقنية الفلاش باك بعده إلى فترة الاستقرار في حياتها، حيث تظهر ميلر في عمر متقدم وهي تروي قصتها لصحافي شاب، نكتشف في ما بعد أنه ابنها، لكن استخدام الفلاش باك هنا مع مشاهد الحوار الصحفي يعد من التقنيات السينمائية المعروفة في أفلام السيرة الذاتية، إذ يستخدم لربط الماضي بالحاضر بطريقة سلسة وواضحة، ليُبرز كيف صقلت تجارب الحرب شخصيتها، ويكشف تدريجيًا عن عمق علاقاتها العائلية، وتساعد هذه البنية السردية على إظهار التغيرات النفسية لميلر.
ويعكس سيناريو الفيلم صورة المرأة الطموحة التي تتحدى التقاليد الاجتماعية والدور المحدود المخصص لها في ذلك الوقت، فتصوير حياة لي ميلر كعارضة تتحول إلى مصورة صحفية حربية يعكس التحديات التي واجهتها النساء في سبيل تحقيق الذات والمساهمة في مجتمعاتهن خلال فترة الحرب العالمية الثانية، بينما تبرز الأحداث عبر شخصياتها النسائية المتنوعة والمشاركة في مجالات فنية وصحفية، التناقض بين حياة الرفاهية في الريف الفرنسي والمآسي التي شهدتها ميلر أثناء توثيق أهوال الحرب وانعكاسها على الهوية الفردية وتغير النظرة الذاتية للمرأة.
ويركز تكوين اللقطات على الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها، مقدّمًا إياها من منظور المراسلة الحربية في توثيق الجرائم ضد الإنسانية، حيث تكشف صور ميلر في معسكرات الاعتقال عن الجانب المظلم للحرب الذي غالبًا ما يبقى خلف الكواليس، فالمشاهد التي تصور فيها أهوال الرعب النازي تعد تعبيرًا قويًا عن المسؤولية الأخلاقية للمراسلين في نقل الحقيقة إلى العالم، وتعكس توترًا سياسيًا واجتماعيًا هائلًا، مسلطة الضوء على أهمية توثيق الحقيقة ومواجهة الماضي القاسي لتعزيز العدالة الإنسانية والتاريخية.
وتتناول حبكة القصة التحولات العميقة التي تمر بها لي ميلر نتيجة التجارب المؤلمة التي تواجهها، إذ بدأت كشخصية مسالمة ومستمتعة بالحياة، لكنها تتعرض لتجارب قاسية تغيّر نظرتها للعالم ولمعنى الإنسانية، فتوثيقها للحظات الأليمة، مثل مشاهد الجثث ومعسكرات الاعتقال، يكشف عن التأثير العميق لتلك المآسي على نفسيتها، وهو ما يبرز في تحولها إلى شخصية حقيقية وواقعية بعد مواجهتها لأقصى حدود القسوة الإنسانية، وهنا تنعكس ذكرياتها وتجاربها الحربية على حياتها اللاحقة، وهو ما يكشف عن ثقل المعاناة النفسية التي تلاحق الأفراد بعد الحروب، ومن خلال هذا الطرح يعبر الفيلم عن أبعاد الفقد والألم الذي يتركه العنف على الروح البشرية، مبرزا العقد التي تواجهها لي ميلر في التصالح مع ذكرياتها وتجاوز آثار الصدمة.
ويعاني فيلم “لي” من ضعف في تصميم مكياج الممثلة كيت وينسلت، التي تجسد شخصية لي ميلر، وهذا أثر سلبًا على مصداقية الشخصية في مراحل عمرها المختلفة، فقد بدا المكياج مكشوفا وظهرت التجاعيد على وينسلت في مشاهد تصور ميلر في شبابها، ما جعل الشخصية تفتقر إلى الإقناع والواقعية، وكذلك لم ينجح المكياج ولا الملابس في إبراز رشاقة ميلر في شبابها، بل أظهر وينسلت بشكل أقرب إلى مرحلتها العمرية الحالية، وهو ما يتعارض مع الفكرة المفترضة عن ميلر الشابة. كما أن استخدام المخرجة إلين كوراس للقطات القريبة والقريبة جدًا لتركيز الكاميرا على ملامح ميلر كشف بدقة عن عيوب المكياج، وجعل الفارق بين الماضي والحاضر يبدو غير متجانس إلى حد ما.
وتقدم كيت وينسلت أداءً قريبا من دورها في فيلم “القارئ” الذي قدمت فيه شخصية تجمع بين الهشاشة الإنسانية والقوة، لكن هذه المرة لتجسد شخصية لي ميلر كمصورة حربية تخوض صراعات نفسية معقدة، إذ يظهر أداؤها التوازن
بين إنسانية الشخصية وضعفها الداخلي من جهة، وشجاعتها وصلابتها الظاهرية من جهة أخرى، ورغم التشابه مع شخصية هانا شميتز في “القارئ”، إلا أن وينسلت تعكس في هذا الفيلم بعدًا أكثر تعقيدًا، يجمع بين قسوة التجربة وشدة التأثر بها وهذا يجعل أداءها معقولا ومتناسقا، بينما يفتقر أحيانًا إلى التفرد الذي كان يمكن أن يبرز خصوصية لي ميلر كشخصية تاريخية مليئة بالتناقضات الإنسانية.
ويشهد إخراج فيلم “لي” نمطية واضحة في سرد أحداث السيرة الذاتية، حيث لم تقدّم المخرجة إلين كوراس جديدًا في تقنيات الربط بين الماضي والحاضر ما دام الفلاش باك التقليدي موجودا، واعتمادها على هذه البنية السردية لم يكن مبتكرًا، بل أعطى انطباعًا تقليديا وسطحيا لسير الأحداث، خاصة وأن تقنية الفلاش باك أصبحت شائعة ومستهلكة في أفلام السيرة الذاتية، كما أن الإفراط في استخدام اللقطات القريبة والقريبة جدا للتركيز على البطلة جاء بغير فائدة فنية تذكر، بل كشف عيوب المكياج وأفقد المشاهد ديناميكية الحركة، وهذا جعل الفيلم يبدو مغلقا ومحصورا في زوايا سرد قصة حقيقية محددة، غير قادرة على توصيل عمق الأحداث أو الإحاطة بجوانب حياة لي ميلر المتعددة.
ويحقق فيلم “لي” نجاحا ملحوظا في ترتيب بعض المشاهد واللقطات التي تعكس القسوة والدمار الذي خلفته الحرب، كالصور الفوتوغرافية التي تعرض وجوه البشر أثناء الحرب، خاصة تعبيراتهم التي تنم عن الخوف من بطش هتلر، ما يبرز حالة الرعب التي عاشها الكثيرون في تلك الفترة، كما أن هناك مهنية في طريقة تصوير شخصية لي ميلر، حيث تظهر من خلال عدسة كاميرا تجمع بين الوثائقي والفني.
ويُعتبر استخدام الأبيض والأسود في بعض اللقطات خيارا جماليا ذا دلالة عميقة، إذ يضيف بُعدًا فنيًا للصور ويُظهر الواقع بطريقة تتجاوز الألوان ويوضح الأثر النفسي للصور على المشاهد، بينما هناك مشاهد مروعة لملايين الجثث التي خلفها هتلر، بما في ذلك مشاهد حرق الجثث والانتحار الجماعي لبعض الأشخاص خوفا من وصول قوات هتلر إليهم، وهذا يعكس ذكاء المخرجة في انتقاء بعض المشاهد واللقطات.
والمخرجة إلين كوراس هي مصورة سينمائية أميركية وُلدت في ولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة، بدأت مسيرتها المهنية في عالم السينما وعملت مع عدد من المخرجين المعروفين مثل سبايك لي وهارولد راميز وسام ميندس، إذ تتميز أعمالها بالقدرة على نقل المشاعر والأجواء من خلال التصوير السينمائي المبدع.
فازت ثلاث مرات بجائزة أفضل مصورة سينمائية في مهرجان سندانس السينمائي، كما حصلت على جائزة إيمي عن الفيلم الوثائقي "ذا بترايل"، الذي قامت بتصويره وإخراجه، وهذا يبرز مهارتها في تقديم الصور التي تروي القصص بطرق مبتكرة وذات تأثير قوي، وتعد إلين كوراس أحد الأسماء اللامعة في مجال التصوير السينمائي وقد أثرت بشكل كبير في صناعة السينما الوثائقية والروائية.