"ليّام لعبت بيّا"

لم أسقط طروادة لأستحق غضب الآلهة. رغم ذلك، ها أنا ذا تائه منذ خمسة عقود، أتنقل من مكان إلى آخر، لا أدري أين تكون المحطة التالية.
الجمعة 2025/01/31
إلى المرسى ثانية

من يعلم أنني قضيتُ في الغربة جلّ سنين حياتي، يخيّل له أنني شخص قاسي المشاعر، أنسته سنين الغربة بلده وأهله.

الحقيقة عكس ذلك تمامًا. لأول مرة أعترف بأني أحسد الناس الذين يولدون ويمضون سنين حياتهم في الحي نفسه أو القرية ذاتها، إلى أن يأخذ الله أمانته.

قصتي مع الغربة لم تبدأ عندما سافرت لأول مرة بالطائرة متوجهًا إلى دبي. رحلتي مع الغربة بدأت قبل ذلك بكثير؛ يوم انتُزعتُ من الحارة التي وُلدتُ فيها وشَهَدَتْ سنين طفولتي الأولى، على أطراف حي “مارتقلا” بمدينة اللاذقية.

النقلة التي أشعرتني بالغربة كانت لمسافة مئات الأمتار، تلتها نقلة ثانية، ثم ثالثة، هذه المرة لمسافة 360 كيلومترًا، هي المسافة الفاصلة بين مدينة اللاذقية والعاصمة السورية دمشق، حيث أمضيتُ خمس سنوات. انتقلت بعدها إلى دولة الإمارات، لأمضي هناك ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى لندن، ومنها إلى مدينة برايتون على الساحل الجنوبي لإنجلترا بمقاطعة شرق ساسكس، لأعود إلى لندن ثانية، متنقلاً بين عدد من العناوين يصعب تحديد عددها، ولكن في جميع الأحوال لا تقل عن دستة من العناوين.

أعيش في تونس منذ 22 سنة. وقبل أن يذهب بكم الظن أنني حققت الاستقرار، أخبركم بأنني مازلت أعيش فيها بإقامة تتجدد سنويًا، متنقلاً بين عناوين مختلفة، بعد أن تنقلت بين العشرات من النزل والفنادق، وأصبح بالإمكان اعتمادي مرجعًا إذا تطرق الحديث إلى أحياء تونس ومعالمها.

خلال الأسبوع الأول من وصولي إلى تونس، الصدفة وحدها قادتني إلى مطعم وبار صغير في ركن منزو، جذبني اسمه وعزلته، “لا بيتيت فاج” بالعربية “الموجة الصغيرة”. في هذا المطعم سمعت لأول مرة أغنية مطلعها: “يا ميمتي الغالية، ليّام لعبت بيّا وكواني لفراق.” (يا أمي العزيزة، طوّحت بي الأيام واكتويت بنار الفراق).

لم أكن آنذاك أعلم شيئًا عن صاحب الأغنية وصاحب الصوت الأسطوري سمير الوصيف، ولم أكن قد سمعت بموسيقى المزود التي تطرب الحجر. لكن، شعرت بأن الأغنية كُتبت لي خصيصًا، وأنني سأكتوي قريبًا بمشاعر الغربة والفراق.

أول محطة في تونس كانت في نزل الدبلوماسي بشارع الهادي شاكر، في منطقة لافاييت، وبعدها بشارع خير الدين باشا، ومن هناك إلى شارع الولايات المتحدة في منطقة البلفدير، ومنها إلى حلق الوادي، ومن حلق الوادي إلى نهج الباشا في باب سويقة، وحي النصر، والمنار، وسيتي مهرجان، ونيلسون مانديلا، وحي الخضراء، وسيدي عبدالعزيز بالمرسى، وشارع مدريد، وعين زغوان، لأعود ثانية إلى البلفدير في شارع كندا، ومن هناك إلى المرسى ثانية.

خلال رحلة العودة إلى وطنه إيثاكا بعد انتهاء حرب طروادة، تاه أوديسيوس في البحر عشر سنوات، واجه خلالها تحديات عديدة. كان ذلك انتقامًا من الآلهة لدوره في سقوط طروادة.

لم أسقط طروادة، ولم أشارك في إسقاط أي مدينة أخرى، لأستحق غضب الآلهة. رغم ذلك، ها أنا ذا تائه منذ خمسة عقود، أتنقل من مكان إلى آخر، لا أدري أين تكون المحطة التالية، وكأني بأبي الطيب المتنبي قد تحدث عني عندما قال “فما حاولتُ في أرضٍ مقامًا / ولا أزمعتُ عن أرض زوالًا / على قلقٍ كأن الريح تحتي / أوجهها جنوبًا أو شمالًا.”

18