ليلة سقوط الأسد كما يراها اللبناني

شهدت ساحات بيروت عام 2005 شعارات متناقضة رفعت من قبل اللبنانيين في وجه الوجود السوري في لبنان، وذلك بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس حكومة لبنان في 14 فبراير من العام نفسه، حيث وجهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري ومعاونيه في لبنان، تحديدًا حزب الله.
بين "سوريا برا" و"شكرًا سوريا" دخل لبنان دوامة الانقسام العامودي حول تحديد طبيعة العلاقة مع نظام الأسد التي يجب من خلالها تحديد المرحلة القادمة، وذلك بعد صدور القرار 1559 الذي دعا إلى انسحاب الجيش السوي من لبنان.
هو المشهد الانقسامي يعيد ترتيب نفسه اليوم في ساحات لبنان، ولكن بفارق بسيط؛ من كان حزينًا على اغتيال الحريري هو من يملأ الساحات فرحًا بهروب الأسد. ومن بنى مع النظام محورًا جعل من سوريا ممرًا آمنًا لسلاحه من إيران، انكفأ وبات اليوم يراقب بحذر ما ستؤول إليه الأحداث المقبلة.
قالت وزارة الخارجية الروسية في بيان الأحد 8 ديسمبر إن الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد غادر البلاد بعد أن استقال من منصبه وأصدر أوامره بتسليم السلطة سلميًا. وفي وقت لاحق أصدرت الوزارة بيانًا آخر تعلن فيه أن “بشار الأسد وعائلة مُنحوا حقّ اللجوء إلى روسيا.”
قدّم استقالته الأسد أم هرب من مقرّ إقامته، فإن الأمر قد حسم، وأصبحت سوريا خارجة عن سيطرة بيت الأسد، التي استمرت في الحكم لأكثر من 50 عامًا. فالأغلبية اللبنانية ترى في هذا الحدث انتصارًا لما عانته من الأسد، ومن أزلامه في لبنان على مدى عقود أدت إلى اهتراء مؤسسات الدولة وتحويلها إلى دولة زبائنية، بدل أن تكون دولة المؤسسات.
استيقظ اللبناني صباح الأحد 8 ديسمبر على خبر دخول الفصائل المعارضة إلى دمشق، مع الإعلان عن بداية حقبة جديدة في سوريا، ستعيد البلاد إلى مكانتها الطبيعية ضمن محيطها العربي. صحيح أن التقارير الأمنية كانت تشير إلى حتمية سقوط الأسد، لكن السرعة التي حصل بها السقوط جعلت اللبناني في حالة من “اللا تصديق” على أن ما يجري بات في حكم الواقع.
مزيدًا من الأمل وكثيرًا من الآمال يضعها اللبناني مع سقوط النظام في سوريا وتدخله في الشأن اللبناني
كما كلّ قضية عربية أم دولية، يدخل اللبناني فيها على انقسام عامودي بين مؤيد ومعارض. لكنّ موضوع سوريا تحديدًا أخذ حيّزًا من الاهتمام عند الشريحة الأكبر التي احتفلت بما حصل معتبرة ًإياه بمثابة تحوّل تاريخي في العلاقة بين البلدين. شكّل الوجود السوري في لبنان جدلية كبيرة عند اللبنانيين الذين عانى الكثير منهم الأمرين، خصوصًا الذين عارضوا وجوده العسكري وطريقة إدارته للبلاد، وعبثه باتفاق الطائف.
شكّلت قوة مسيحية، على رأسها القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية وبعض القوى المسيحية المحسوبة على ما كان يعرف بقوى 14 آذار، معارضة واضحة للنفوذ السوري، ولكل من كان داعمه في لبنان على رأسهم حزب الله.
ورغم زيارة سعد الحريري إلى سوريا، فإنّ هذا لم يطو الصفحة عند الكثيرين من أهل السنة، تحديدًا المنتسبين إلى تيار المستقبل، ولم يؤد إلى تبرئة النظام من اغتيال الحريري. لهذا ما شهدته الساحات اللبنانية ذات الأغلبية السنية من احتفالات بسقوط الأسد، شكلّ دليلًا رئيسيًا على أنه لا مصالحة ولا مسامحة لهذا النظام.
لعب الزعيم الدرزي وليد جنبلاط دورًا حيويًا في معارضة النظام في سوريا، ووقف إلى جانب الثورة السورية منذ انطلاقتها في عام 2011، إلى حين سقوط الأسد. ولم تزل مواقفه عالية السقف تجاه النظام في إيران أيضًا، الذي اعتبر أنّ له اليد الطولى في اتخاذ القرار اللبناني بشأن الحرب مع إسرائيل على حساب رغبة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.
وبالرغم من الاختلاف في النسب إلا أنه كما سائر المكونات اللبنانية كان في الطائفة الشيعية معارضون للأسد، ولسياسته في لبنان. فهؤلاء لعبوا دورًا في إظهار التنوّع اللبناني في الخيارات وقدموا نموذجًا في المواجهة والدعوة إلى بناء الوطن ذي السيادة والحر والمستقل.
لا يرتبط الموقف اللبناني بالتعبير فرحًا عن سقوط النظام، بل هناك من وضع قراءة ذات بعد إستراتيجي، مرتبطة بمصير حزب الله بعدما قطعت عنه الإمدادات من خلال قطع الطريق على إيران عبر سوريا. حيث يجد هؤلاء أن لا خيار أمام حزب الله إلا أن يتحوّل إلى حزب سياسي، مع تراجع دور المحور الذي عملت على وجوده إيران. فسقوط النظام في سوريا يعتبر نقطة محورية في عودة الحزب إلى الحضن اللبناني بعدما عمل على تشظي دوره إلى أكثر من ساحة عربية وإقليمية.
لم يعد بوسع حزب الله التفرد في مستقبل لبنان وفتح جبهات مع العدو الإسرائيلي أو غيره تحت أي ذريعة. فلم تعد باستطاعته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فما حصل يعتبر حدثًا كبيرًا في تاريخ سوريا، حيث سيعيد الشعب السوري بناء دولته البعيدة عن المحور الإيراني، الدولة المؤسساتية التي وعد بها زعيم المعارضة السورية أبو محمد الجولاني.
رسم سقوط الأسد خارطة طريق جديدة للبنان، وبرزت معالم تؤكد على أن البلد سيعود إلى موقعه الطبيعي، وأن الحياد عما يدور في المنطقة هو ما ستكون عليه الدولة اللبنانية. ويبدو أن إدخال لبنان في لعبة المحاور ما عاد ممكنا لأن اللعبة سقطت إلى غير رجعة، بل سيتطلع لبنان إلى التعاطي مع أي نظام ستكون عليه سوريا على أساس الشراكة بين بلدين جارين.
مزيدًا من الأمل وكثيرًا من الآمال يضعها اللبناني مع سقوط النظام في سوريا وتدخله في الشأن اللبناني. وإن مقولة البعث السوري إن لبنان هو امتداد سوريا الطبيعي، هربت مع هروب الأسد.