ليس بالفوسفات وحده يحيا التونسيون

قيس سعيد الذي لم يفقد شعبيته بدا مع أبناء قفصة محاورا ألوفا ومتفهما متجاوبا  ومقترحا حلولا يصفها معارضوه بأنها شعبوية، لكنها تظهر منطقية ومستحبة لدى رئيس لم يفقد بريقه الشعبي.
الجمعة 2023/06/16
الفوسفات ثروة وطنية يعم خيرها على الجميع

"يلعن أبو الفوسفات" فيلم وثائقي أنجزه السينمائي التونسي سامي تليلي منذ سنوات، يستلهم فيه بالوقائع والشهادات أحداث الحوض المنجمي في جنوب غرب البلاد التونسية من محافظة قفصة سنة 2008، والتي تعتبر الشرارة الأولى للانتفاضة الكبرى التي أدت إلى سقوط نظام الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي عام 2011.

أمّا لماذا يلعن التونسيون من أهالي قفصة الفوسفات الذي كان يمثل ما يقارب الـ25 في المئة من الاقتصاد التونسي، فلأن 30 في المئة منهم عاطلون عن العمل.. وتلك مفارقة يصعب حلها على كل الحكومات المتعاقبة ما بعد وقبل 2011.

هل أتى الرئيس التونسي قيس سعيد بالحل السحري في زيارته غير المعلنة منذ أيام قليلة إلى منطقة الرديف من محافظة قفصة حيث يستمرّ تعطيل إنتاج الفوسفات التجاري وتحويله نحو مُصنّعي الأسمدة الكيميائية بسبب اعتصامات مجموعات من طالبي الشغل، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون “حبة مسكّنة” كما كان يفعل أسلافه؟

الحقيقة أن الرجل يبدو حازما، واضحا، وصريحا حتى في دخوله إلى جماهير المحتشدين وابتعاده عن أمنه الرئاسي بشجاعة لافتة، قائلا إن تونس اليوم في حاجة إلى الفوسفات وإلى كل ثرواتها الوطنية “لمواجهة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة، وإنه من الضروري أن يسترجع قطاع الفوسفات اليوم نسق إنتاجه العادي”، مذكرا بمجلس الأمن القومي الذي عقده منذ ما يقارب شهرين.

◙ هي مناجم تعمل الآن بطاقة محدودة نتيجة ما لحق بها من تعطيلات ومضار وإعاقات، لكن الباحث في هذا الصدد يجد الأعذار، حتى للذين يعطلون مسالك الإنتاج والتس

القصة إذن، لا تتعلق بمجرد رسالة يبعثها الرئيس التونسي المثقلة بلاده بالديون إلى وجهة خارجية، قبل أن تكون داخلية، خصوصا أن زيارته تزامنت مع مجيئه إلى محافظة صفاقس حيث اطلع على مكان تجمع الأفارقة من جنوب الصحراء، وربط ذلك مع ملف تفاوضه مع الاتحاد الأوروبي، وإمكانية حصول تونس على قرض ميسّر من شأنه أن يجنّبها الوقوع في انهيار اقتصادي لا تحمد عقباه.

لتكن رسالة مزدوجة التوجه كما قد يخطر في خلد الرئيس التونسي الذي تُسجل له شجاعته غير المسبوقة في طرح موضوع الفوسفات، على أهله، وأمام أصحاب الأرض، على عكس أسلافه من حكومة الترويكا، الذين كانوا يكتفون بإرسال مندوبين لهم من أهالي المنطقة، لكن البلاد ليست مزرعة أو “مزارع” كما يوحي به قانون “البيئة والبستنة” الذي وصفه الرئيس بـ”الكذبة الكبرى” والذي يوظف الآلاف من الناس دون نشاط فعلي، مع أعباء مالية كبيرة على الدولة.

الشركات الأهلية يمكن لها أن تكون بديلا بمساندة التعديلات الجزائية في العقوبات البديلة بحق المخالفين ومرتكبي الجرائم المالية، هي حل يوافق عليه الفقراء والأغنياء، على حد سواء في تونس، ولم يعترض عليه أحد، بمن في ذلك معارضو الرئيس.

أما الترقيعات المتمثلة في البستنة التي استحدثها الفاشلون من السياسيين بمساعدة الفاسدين كوسيلة للإسكات، فقد انتفع منها أولئك الذين وصفهم سعيد ببائعي الوهم، وصنّاع المطر، من الكذابين والمخربين، على حد وصفه.

اجتمع المحتجون حول الرئيس الذي لم يسانده أي حزب كما تظهر مشاهد الفيديو، ورثى منطقة قفصة على ما آلت إليه قائلا إنه لم يعهدها في مثل هذه الحال منذ عشرين عاما، مؤكدا على ضرورة إيجاد الحلول وتحدي التهديدات.

بدا الرجل الذي لم يفقد شعبيته، مع أبناء قفصة، محاورا ألوفا ومتفهما متجاوبا مع جميع المستمعين مقترحا عليهم حلولا يصفها معارضوه بأنها شعبوية، لكنها تظهر منطقية ومستحبة لدى رئيس لم يفقد بريقه الشعبي، الأمر الذي يفتقده من حكموا تونس في أحلك ظروفها.

◙ هل أتى الرئيس التونسي قيس سعيد بالحل السحري في زيارته غير المعلنة منذ أيام قليلة إلى منطقة الرديف من محافظة قفصة حيث يستمرّ تعطيل إنتاج الفوسفات التجاري

تونس في حاجة إلى تلك الملايين من الدولارات العائدة إلى خزينتها بفضل الفوسفات الذي بات اليوم غائبا عن موانئ العالم في أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية والجنوبية.. وليس لهذا البلد محدود الموارد والإمكانيات، وكثير المطالب والاحتجاجات، غير الفوسفات الذي اكتشفه الفرنسي فيليب توماس سنة 1885.. وبدأت الحكاية التي تحفها المآثر والملاحم.

هي مناجم تعمل الآن بطاقة محدودة نتيجة ما لحق بها من تعطيلات ومضار وإعاقات، لكن الباحث في هذا الصدد يجد الأعذار، حتى للذين يعطلون مسالك الإنتاج والتسويق، أمّا وقد زارهم الآن رئيس يعتبر صادق النوايا، وليس كغيره من المسوّفين، فإن الرسالة قد وصلت إلى أوروبا والعالم، في قوله للتونسيين “نحن نريد الفوسفات من جديد ثروة وطنية يعم خيرها على الجميع على قدم المساواة”، ومخاطبا الضفة الشمالية “يريدون المنّ علينا بـ1.9 مليار دولار.. لا يمنّ علينا أحد، نحن أصحاب كرامة”، في إشارة إلى تعطل حصول تونس على قرض من صندوق النقد الدولي حتى اليوم.

هي إشارة إلى إظهار قوة الدولة ورفض التوظيف بالإكراه كما كان يحصل في السابق، حيث وصف شركات البيئة والبستنة بالكذبة الكبرى، وحث على الانضواء في شركات أهلية، فهل هذا تلميح بالنهج نحو أسلوب مصري، طالما شبّه به البعض سعيّد بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، أم أن الفرق واضح بين شعبين وحاكميّتين وإستراتيجيتين؟

ينبغي الاعتراف بأن أن الشعب التونسي “مدلل زيادة على اللزوم” مقارنة بشعوب المنطقة العربية، وعلى الرغم من محدودية موارده الطبيعية والبشرية، لكن الدولة المدنية ذات الأصول المتجذرة في تاريخه القديم والحديث، قادرة على إحداث الفوارق والتحديات.. فقليل من الانضباط والابتعاد عن الاتكالية والكسل والتراشق بالاتهامات قادر على إثبات صحة شيء اسمه “المعجزة التونسية”.

9