ليست لي فكرة

الأفكار ككائن معنوي تتناسل وتتطور وتموت، كباقي الكائنات الحية وحتى كالجماد المندثر، لكن تبقى العبرة في التوالد المستمر.
الثلاثاء 2024/07/09
مناخ منفر طارد للأفكار

أحيانا أمام ضغط اللحظة وزحمة أطيافها، يصاب الكاتب بحالة من التشويش، تجعله عاجزا عن بلورة فكرة واحدة، أو تحديد معالم نص، وحينها يعتذر عن الكتابة بدعوى أنه لا يملك فكرة، لكن الفكرة حينها أنه لا يملك فكرة، فلو تأمل قليلا ذلك الزخم الذي يجول في مخيلته، لوجد أن كل ذلك الذي يحول دون بلورة فكرة، هي مجموعة من الأفكار تداخلت وتشابكت ولم تسمح لواحدة منها بالبروز إلى حالة التدوين.

حالة الصفاء الذهني والقدرة على الإنتاج المستمر لا يمكن أن تكون متواصلة لدى الإنسان بشكل عام والكاتب بشكل خاص، ولذلك فان بلورة الأفكار هي نتيجة طبيعية للمناخ الذي تعود صاحبها على إنتاجها فيها، فكما يحتاج البعض إلى هدوء، ومنظر طبيعي ملهم وشيء من الموسيقى الرقيقة، فهناك أيضا من بإمكانه بلورة أفكاره وتدوينها في صخب المقاهي ومنبهات السيارات وضجيج الباعة المتجولين.

أمر طبيعي أن يطالب الكاتب بتجهيز نصه لأن صاحب الشغل ملزم بوقت وأجندة، لكن كيف يكون موقف الرجل، إذا خانه الإلهام أو أصيب مشهده باللون الرمادي، هل يعتذر ويقول ليست لي فكرة، أم يبحث في ذلك الركام وذلك المشهد ليستنبط منه لونا يقوده إلى تدوين نصه؟.

الأكيد أن الكاتب لم يصل إلى هذه الدرجة من الجمود، إلا لوجود مانع كان سببا لذلك، ولأنه لا يعرف ذلك المانع يعتقد أن قريحته ليست قادرة على بلورة أي فكرة، بينما تكفي لحظة قصيرة لتفكيك تلك اللوحة المشوشة والألوان الداكنة المتداخلة، وبإمكانه أن يكتب أنه غير قادر على إنتاج فكرة، وعن حاجته للراحة والاسترخاء، فحتى عدم القدرة على بلورة فكرة، أو الاستدارة عن وسيلة الكتابة، هي فكرة في حد ذاتها، مادامت تبحث عن صفاء ذهني وقدرة على التفكير.

لا يصل الكاتب إلى هذه الحالة، إلا لأن مناخا منفرا وبيئة طاردة للأفكار وللكتاب، خيمت على المشهد العام، أو أن حالة من اليأس تدب في النفوس، وتجعل من وجود الأفكار كعدمه، فلا طائل منها، ما دام الوضع في بعض مجتمعاتنا العربية وصل إلى حالة متقدمة من العدمية واللاجدوى.

الأفكار ككائن معنوي تتناسل وتتطور وتموت، كباقي الكائنات الحية وحتى كالجماد المندثر، لكن تبقى العبرة في التوالد المستمر، فكم من فكرة انطلقت بسيطة أو حتى تافهة لكنها كبرت وغيرت مجرى التاريخ والإنسانية، وربما تكون قد ولدت في لحظة الجفاف التي نقصدها، ويكون كاتبها أو قائلها قد ردد وهو في لحظة الرهبة والخوف: “ليست لي فكرة “، لأنه يخشى أن يكون قد أصيب بشلل إبداعي.

وهذا هو الفارق بين الإنسان والآلة، فالأول بإمكانه تدارك وضعه متى آمن من أن معين الأفكار لا ينضب والحاجة فقط إلى ترتيب وفرز واستجلاء الألوان، بينما الثانية تبقى في حاجة إلى إصلاح إذا أصيبت بعطب ما، أو إلى تغيير القطعة العاطلة، فقد تكون لحظة الإفلاس الفكري هي ذاتها لحظة إيجاد الحل، وتكون مثلا مجرد تعديل الجلسة على الكرسي كافية لإعادة الإشارة إلى العمل العادي.

أن تخوننا الأفكار أو يتعطل لدينا التفكير، هو في حد ذاته فكرة وتفكير، لأنه مدعاة للبحث في فصول وتفاصيل تلك اللحظة، وربما الزخم المشوش للذهن هو الذي منع واحدة من تلك الأفكار إلى البروز على السطح.

18