ليست شروط صندوق النقد، ولكنه ارتباك تونسي

لو امتلكت تونس بدائل أخرى لكان من حقها رفض شروط الصندوق.
الأحد 2022/12/18
مرت الانتخابات، فهل يتغير الموقف

تونس قد لا تستفيد في القريب من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والسبب أنها لا تريد المضي في تنفيذ تفاصيل هذا الاتفاق خوفا من تأثيراته السياسية. هل تمتلك بدائل أخرى من الصين أو الخليج؟ سؤال تبدو الإجابة عليه صعبة في غياب أي مؤشرات.

بمرور الوقت يتأكد أن المشكلة التي تعاني منها تونس هي غموض الرؤية لحل الأزمات. صندوق النقد حجب بشكل مؤقت القسط الأول الذي كان يفترض الإعلان عن منحه لها خلال هذه الأيام، مثلما حصل مع مصر الجمعة. وهي رسالة واضحة للتونسيين مفادها أن الصندوق جاهز لتوفير التمويل الذي تعهد به، وأنه يمكن أن يتدخل لدى كبار المانحين لتشجيعهم على ضخ أموال إضافية لتونس لمساعدتها على إنقاذ اقتصادها مثلما حصل مع مصر.

قال صندوق النقد الدولي في بيان إن المجلس التنفيذي التابع له وافق على تمديد ترتيبات لمصر بقيمة 3 مليارات دولار لمدة 46 شهرا.

وأضاف أن القرار يتيح صرف 347 مليون دولار لمصر على الفور.

وجاء في البيان أنه من المتوقع أن يقوم الصندوق بتحفيز تمويل إضافي بحوالي 14 مليار دولار من شركاء مصر الدوليين والإقليميين.

لكن الرسالة الأهم في كلام الصندوق هي أنه لم يطلب من مصر خفض الإنفاق على الدعم، وهي المشجب الذي تعلق عليه الحكومة التونسية تلكؤها وارتباكها في التعاطي بإيجابية مع الصندوق لبدء الإصلاحات سريعا في وقت تقول فيه كل الأرقام إن البلاد في وضع صعب، وإن ليس من مصلحتها التسويف والتأجيل، فكل يوم تخسره في الانتظار سيزيدها صعوبة في مقاربة الإصلاح.

الرسالة الأهم في كلام الصندوق هي أنه لم يطلب من مصر خفض الإنفاق على الدعم، وهو ما تعلق عليه تونس تلكّؤها

الآن مرت الانتخابات التشريعية. وانتفى المبرر الذي جعل الحكومة تتخوف من أن يقود إعلانها عن تبني سياسات اقتصادية مدعومة من الصندوق إلى التأثير سلبا على الناخب التونسي، وأنها يمكن أن توفر فرصة لا تعوض للمعارضة للهجوم عليها وعلى الرئيس قيس سعيد، ودفع الناس إلى مقاطعة الانتخابات أو إلى مشاركة ضعيفة.

يمكنها أن تتدارك الآن، وتعلن وبشكل واضح عن موعد إصدار قانون المالية الجديد، وإن كان سيتضمن إصلاحات صندوق النقد بمختلف عناصرها أم لا. ليس هناك منطقة وسطى. الصندوق لا تهمه السياسة المحلية، ولا توازناتها، ما يهمه هو الإصلاحات الاقتصادية.

ويفترض أن حكومة تكنوقراط مثل حكومة السيدة نجلاء بودن لا تهتم لهذه المسائل، وهي مسائل متغيرة، يمكن أن تكون خادمة لفئة أو حزب أو شخصية سياسية الآن، وفي فترة لاحقة يتغير الاتجاه ويستفيد منها طرف آخر، وتلك لعبة السياسة ليس فيها رابح دائم وخاسر دائم.

قد تزعج الإصلاحات الاقتصادية، التي تقوم على التقشف في المالية الحكومية والتخلي عن صورة الدولة التي تنفق بغير حساب قيس سعيد، وقد تهز من صورته في الداخل، لكن تونس في حاجة إلى من يأخذ القرارات الهامة من دون أن يضع الأولوية لمكاسبه المباشرة. والتونسيون اختاروه رئيسا لأنه يختلف عن سابقيه الذين كان أغلبهم يفكر في حزبه ورئيس حزبه وارتباطاته مع الدولة العميقة ومع الحلفاء الخارجيين.

لو أن تونس كانت تمتلك بدائل أخرى لكان من حق الرئيس سعيد أن يرفض “إملاءات” الصندوق والدول التي تقف وراءه، وخاصة الولايات المتحدة، التي لا تخفي أنها تقايض أموال الصندوق بمواقف سياسية.

كل الناس يعرفون أن للصندوق أجنداته، لكن للدول أجنداتها أيضا. وأجندة تونس الآن هي إنقاذ اقتصادها وتحصيل الأموال الضرورية للخروج من أزمتها. لو وجدت تمويلات أخرى كافية لقلنا إن من حق قيس سعيد أن يهاجم الصندوق ويقول بكل وضوح إن إيجاد حلول لمشاكل تونس لا يمكن أن يتم فقط من خلال “الأرقام، ولا من قبل صندوق النقد الدولي ولا من قبل أي صندوق آخر”.

وأضاف الرئيس سعيد في تصريحات لوكالة الأنباء التونسية الرسمية “لا يمكن لأي طرف أجنبي أن يفرض علينا حلوله أو بدائله الخاصة بمشاكلنا”.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد التصريحات القوية للرئيس التونسي في زيارته إلى واشنطن وحضوره القمة الأميركية - الأفريقية هو هل كانت لديه بدائل جاهزة وكان يريد أن يستمع للصندوق ومواقف الدول التي تتحكم من وراء الستار، ليعلن عن رفضه لشروطها ثم يعلن عن خياراته الجديدة؟

هل حصل الرئيس سعيد على ضمانات وتطمينات من الرئيس الصيني شي جينبينغ بأن بكين ستدعم تونس وتوفر لها التمويلات التي تطلبها، أم حصل على تعهدات من قادة خليجيين التقى بهم في القمة الصينية - العربية بشأن تسريع التمويلات والقطع مع حالة اللاموقف تجاه تونس؟

بالنسبة إلى فرضية الصين فهي ممكنة، لكن هناك محاذير اقتصادية وأخرى سياسية تحيط بها.

يفترض أن حكومة تكنوقراط مثل حكومة بودن لا تهتم بالحسابات السياسية
يفترض أن حكومة تكنوقراط مثل حكومة بودن لا تهتم بالحسابات السياسية

الصين تعرف بالقروض الصغيرة والسهلة والتي تتجه إلى إقراض ميزان المدفوعات والإقراض من أجل الإنقاذ في حالات الطوارئ بدل الإقراض الاستثماري، وهذا ما تريده تونس. لكن يخشى أن تسقط تونس في المحاذير التي تشير إليها تقارير دولية مختلفة من أن القروض الصينية الميسرة تثقل كاهل الأمم المقترضة بالديون المرتفعة.

صحيح أن الصين باتت منافسا مقلقا لصندوق النقد والدول التي تقف وراءه، وهو ما أعلنت عنه مؤخرا مديرة الصندوق كريستالينا جورجيفا من أن تأخذ أدوات بكين دور المؤسسة المانحة في دعم الحكومات. وهذا موطن المخاوف.

فهل ستختار تونس تغيير تحالفاتها لأجل القروض، وهل هذا الطريق سهل على بلد كل ارتباطاته الأمنية والعسكرية والاقتصادية متصلة بأميركا وأوروبا؟ هل يقدر الرئيس التونسي أن يلعب على التناقضات بين الكبار لتحصيل قروض من هنا وهناك؟

وبالنسبة إلى دول الخليج، فإن التوجه الغالب الآن يتجاوز طريقة الدعم التقليدية التي تقوم على تحويل أموال مباشرة إلى الدولة المعنية في شكل مساعدات أو وديعة أو استثمارات، وبات يعتمد على التمويل عن طريق ضمانات صندوق النقد الدولي، وهو ما يجعلها فرضية مستبعدة.

وبات من الصعب اللعب على التناقضات الخليجية لتحصيل الدعم من جهة على حساب الأخرى، وقد أظهر مونديال قطر أن المصالحات الخليجية الجماعية والثنائية باتت أمرا واقعا خاصة أن الأقطاب في مجلس التعاون باتت مهتمة بالمستقبل وتستثمر لبناء شراكات كبرى مع دول مؤثرة، ولم تعد تلتفت إلى التفاصيل الإقليمية الصغيرة.

وتبقى الفرضية الأخيرة، أن تونس تقدر بمجهودها الذاتي - الداخلي على توفير التمويلات الضرورية لإصلاح اقتصادها بطريقة تحقق ما تريده من توازن بين الحفاظ على الخدمات المقدمة للتونسيين والاستمرار في دعم المحروقات والمواد الأساسية من جهة، وبين إصلاح اقتصاد متهاو والدخول في مرحلة تقشف قاسية في المجالات المتاحة.

لو أن تونس كانت تمتلك بدائل أخرى لكان من حق الرئيس سعيد أن يرفض "إملاءات" الصندوق والدول التي لا تخفي أنها تقايض أموال الصندوق بمواقف سياسية

يبدو الأمر بالغ التعقيد، فتونس لا تمتلك لحد اللحظة من حل داخلي سوى زيادة الضرائب، خاصة أن التقشف ينتظر أن يصطدم بإمبراطورية اتحاد الشغل الذي يرفض المساس بالمزايا الممنوحة للموظفين والعمال الذين يتبعونه، وبصفة خاصة القطاع الحكومي.

لا تستطيع حكومة بودن أن تمد يدها إلى هذا الأخطبوط العجيب إن لم تصطدم باتحاد الشغل، أسلوب التصعيد والتبريد الذي تعتمده حاليا هو لعبة مفضلة للمنظمة النقابية، فهي تعرف أن الحكومة تتهرب من المواجهة ولا تريد أن تدفع باتحاد الشغل إلى مربع المعارضة السياسية.

وهذا أسلوب عقيم لأنه سيمنع أحد أبرز عناصر الإصلاح، وهو وقف زيادة الأجور، وسحب مزايا من الإدارات ضمن سياسة التقشف و”ترشيد” المالية العمومية بوقف هدر المال في الإنفاق على أسطول السيارات الإدارية، وكوبونات البنزين المجاني التي تمنح للكوادر الإدارية.

يبقى العنصر الثاني في التوفير الذاتي، وهو استجلاب الأموال المصادرة التي تتحدث عنها الحكومة والرئيس سعيد باستمرار. هناك مفارقة هنا بين الرغبة في استعادة الأموال المصادرة ضمن “التحشيد” الحكومي لتوفير الأموال للميزانية والبدء في مشاريع عاجلة وبين رغبة قيس سعيد في أن يتولى رجال الأعمال المعنيون بـ”المصالحة” إنجاز مشاريع في المناطق الفقيرة.

وتبقى الإشارة إلى أن فكرة المصالحة القائمة على “حلب” رجال الأعمال خيار لديه محاذير كثيرة من أبرزها أنها تثير المخاوف لدى رجال المال وقد تدفعهم إلى الانكماش بدل ضخ المزيد من الاستثمارات، وهو عنصر مهم تراهن عليه الحكومة لتحسين عناصر الجذب الاقتصادي.

وبالنتيجة، فإن أي خيار حكومي بالقطيعة مع صندوق النقد أو بالاستمرار معه يحتاج إلى مقاربة اقتصادية واضحة وعاجلة وخيار سياسي براغماتي لإخراج البلاد من أزماتها ووضعها على سكة التغيير.

6