ليبيون في مصر: الجسد في القاهرة والقلب في طرابلس

شهادات من أهالي طرابلس حول إرسال تركيا ميليشيات صارت تدفع السكان إلى ترك منازلهم بقوة السلاح وجعلتهم مشردين.
الجمعة 2020/01/24
نغادر وفي القلب حسرة

تشتت الليبيون في دول الجوار بعد أن كانوا يزورونها سياحا مبجلين، وتحولت الثورة التي كانوا يحلمون فيها بهامش من الحرية يدعم استقرارهم وتآخيهم إلى كابوس وقتال، وزادت الحرب اشتعالا بسبب ميليشيات ترسلها تركيا إلى طرابلس باعدت بين أبناء الوطن الواحد.

القاهرة – يظن الفارون من الحروب والنزاعات المسلحة في ليبيا، أن صفحة الويلات يمكن أن تطوى داخلهم بمجرد تجاوز الحدود ولو مؤقتا، يمنون أنفسهم بفسحة قصيرة لا يقطع نومهم فيها صوت القذائف، ولا تقتحم منازلهم ميليشيات مسلحة تجبرهم على إخلائها، دون منحهم وقتا لجمع حاجاتهم.

يهدأ قلقهم على أنفسهم قليلا، غير أنه يساورهم مجددا على ذويهم العالقين داخل أرض المعركة في طرابلس، يتابعون الأحداث بتوتر عبر البث الفضائي ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يقطنون الآن سواء في القاهرة أو الإسكندرية أو مرسى مطروح، وهي مدن تمثل نقاط التمركز لأكبر عدد من الليبيين في مصر.

داخل مخبز ليبي، وقف الشاب الثلاثيني يشتري حاجاته، واشترك في الحوار عند سؤالنا عن صاحب المخبز لجنسيته الليبية، قائلا “أنا ليبي أيضا ماذا تريدون؟”، لكنه بدا مترددا ومشوشا، يفكر في الحديث مليا قبل النطق به، وكأنه يخفي ألما وقلقا باديين على ملامحه، حتى أنه رفض ذكر اسمه.

وصل القاهرة في شهر يناير قادما من طرابلس، شاهد الميليشيات المسلحة من جنسيات مختلفة وهي تدخل ضاحيتهم وتقوم بإجلاء الأهالي، يقول “رأيت عددا من الأجانب الذين أوفدتهم تركيا إلى بلادي، يجلوننا من منازلنا ليسكنوا هم فيها، لا أحد يستطيع المعارضة، هم مسلحون، عائلتي نزحت من منزلنا إلى منطقة  أخرى أكثر هدوءا في طرابلس أيضا، فدرجات اشتعال الأوضاع هناك متباينة، لا يمكن العيش تحت أصوات المدافع وفوهات البنادق، إذا تحمل الكبار هذا الموت المنتظر، فماذا عن الأطفال؟”.

وأشار الشاب إلى ارتفاع أسعار المساكن في طرابلس أضعافا بفعل التغيرات الديموغرافية مع توالي تسكين عناصر الميليشيات، ولا بد من الدفع ثلاثة أشهر مقدما، أي أن العائلة تنفق مالا كثيرا في استئجار شقة في منطقة هادئة، تتحول بعد فترة لبؤرة توتر وسكن للمسلحين، فيضطر الأهالي إلى تركها مجددا.

قال “تأجير شقة بمدينة نصر في القاهرة أقل كلفة من السكن بطرابلس الآن”، ولأن عدد سكان ليبيا في مدينة نصر محدود، فمن السهولة التعرف عليهم حال ما تطأ أقدامهم مصر. في القاهرة يتابع الليبيون صور المرتزقة والعناصر المسلحة على مواقع التواصل التي تقدم شهادات حية على أن تركيا دفعت فعلا بالمئات من العرب غير الليبيين إلى طرابلس مؤخرا.

وتبدو عملية تصفح مواقع التواصل الاجتماعي لدى الليبيين أمرا لا يخلو من مفاجآت، فقد يقفز خبر وفاة قريب أو من المعارف مدنيا كان أو عسكريا، ناهيك عن أخبار ولقطات عن إرسال جنود أتراك إلى بلادهم، فبدت لهم تركيا عدوا جديدا، بعد إيطاليا العدو التاريخي في الوجدان الشعبي. وعلى بعد مئات الكيلومترات من الحدود الليبية، حيث مدينة الإسكندرية على البحر المتوسط، تقيم فتحية الشهيرة بـ”أم عوض” (66عاما) في حال ترقب مستمر.

تتابع السيدة الستينية الفيسبوك بتوتر دائم، ما أسعدها فيه العثور على نجلها فؤاد أفليقة المفقود منذ أشهر خلال محاربته للميليشيات المسلحة.

يخالط الترقب القلق من أن تحمل الأخبار المزيد من الأعباء على كاهلها المرهق، فهي تعاني من مرض السرطان، لكن ما يقلقها أكثر خبر غير سار عن نجلها الآخر محمد، وهو يحارب بين صفوف الجيش الوطني الليبي، وسبق وأن تلقت صاعقة استشهاد نجلها الأكبر عوض.

أحلام مؤجلة

التاريخ يسجل العدوان التركي
التاريخ يسجل العدوان التركي

تقول فتحية لـ”العرب” “أخاف كلما تصفحت مواقع التواصل أن تحمل لي خبرا غير سار بخصوص ابني محمد، آخر مرة سمعت صوته قبل 25 يوما، وهو يخبرني بالعودة إلى صفوف الجيش لتحرير طرابلس من قبضة الإرهابيين”.

وتضيف “حاولت إثناءه بعد استشهاد أخيه وفقدان الآخر، لكنه قال ‘أحارب لتحرير وطني ليس لنصرة شخص’، وسبق وأن أصيب في الحرب، دماؤه حامية لا يقبل أن يرى وطنه ينتهك ويصمت”.

أم عوض ناشطة عبر موقع فيسبوك، تعتبره الوسيلة الوحيدة للاستغاثة لعل صوتها يُسمع، فهي تجسيد حي لألم الفقد للابن والوطن، تتمنى أن ينتهي كل هذا باتفاق ما يحقن الدماء، وتعتبر أن الأولى باللوم ليس الأتراك، وإنما من استدعاهم.

وصلت السيدة إلى مصر قبل خمسة أشهر لتلقي العلاج بصحبة ابنتيها وابن صغير في الصف الثالث الإعدادي، وهو لم يزر فصله منذ بداية العام الدراسي الحالي بفعل الأحداث، وزوجها ضابط سابق في الجيش كان قد وقع أسيرا أيضا قبل خمس سنوات من قبل التنظيمات الإرهابية.

قبل النزوح كانت العائلة تقيم في منزل تملكه، باعته لدفع فدية الزوج عند اختطافه، وانتقلت لإحدى قرى بنغازي في بقعة تسمع منها أصوات القذائف واضحة، وتلمس آثار الحرب في كل خطوة لها، لتضطر مجددا للسفر إلى مصر، وعاد رب الأسرة إلي ليبيا مجددا الشهر الماضي للبحث عن نجله المفقود.

تقضي السيدة وقتها بين متابعة الأخبار ومحاولة الاتصال بزوجها وابنتها التي بقيت هي الأخرى في بنغازي بصحبة أبنائها. ومع أن السيدة جاءت إلى مصر لتلقي العلاج في حالتها المستعصية، لم تزر المستشفى حتى الآن، هي تفضل أن تنفق ما لديها من مال قليل في سداد نحو 12 دولارا يوميا إيجار الشقة المتواضعة التي تقطنها.

تشكو الستينية من المعاملة الجافة التي تلقاها في القنصلية الليبية ورفض منحها مساعدات مالية، وهي تثني على معاملة المصريين لها.

الوطن في البال

ألم فقد الابن والوطن
ألم فقد الابن والوطن

 بمجرد أن أنهى إياد بوعودي (12 عاما) امتحاناته المدرسية في القاهرة والحصول على إجازة قصيرة لمدة أسبوعين، حتى بدأ استعداده النفسي للسفر إلى ليبيا كالمعتاد، سأل والده عن موعد رحيلهم، فاجأه بأنهم لن يتمكنوا من السفر هذه المرة، ربما بعد فترة، دون أن يحدد له السبب.

حزن الطفل، لأنه لن يتمكن من رؤية أبناء عمومته، لكن الحزن الذي انتاب والده أكبر، فقد جدد سؤال نجله صور المصابين والضحايا الذين يستقبلهم ويرعاهم لحين العودة إلى ليبيا، وزادت شجونه حول مصير بلاده المضطربة.

الأب حسن بوعودي الملقب بـ”عمدة الليبيين” في القاهرة، حيث أتاح طول إقامته لـ20 عاما وعمله في مجال العقارات أن يصبح دليلا للوافدين الكثيرين على العاصمة أخيرا وغالبيتهم للعلاج، أو الهروب من نيران الحرب في طرابلس التي يتوقع ليبيون أن تزداد اشتعالا مع قدوم جحافل الأتراك المحتمل.

يشير بوعودي إلى كرسي متحرك جواره، قائلا “هذا تبرع به أحد المصابين كي يستفيد منه آخر، بعدما تلقى صاحبه العلاج وعاد إلى ليبيا للانتظام بين صفوف الجيش”.

لفت عمدة الليبيين إلى أن سلسلة المتوافدين لا تنقطع، وقدرهم يوميا من 200 إلى 300 وافد مع تجدد الاشتباكات، “بعض العائلات تأتي للاستقرار هربا من الأوضاع الصعبة، وآخرون للتعلم”.

يلجأ مصريون إلى بوعودي لاستقصاء حقيقة الأوضاع في ليبيا، خصوصا بعد الإعلان عن التدخل التركي العسكري المباشر، يقول “عن نفسي لا أستطيع فك كل الشفرات المتداخلة في المشهد، لكن اعتقادي الراسخ أن الجيش الوطني على حق، يكفي أن المشير خليفة حفتر صنع جيشا من لا شيء بعد مقتل العقيد معمر القذافي، جيش وطني في مواجهة ميليشيات مسلحة وأطماع تركية بلا حدود”.

طبع الليبيون منطقة مدينة نصر في القاهرة بطابعهم. صحيح كجالية ليست منفتحة مثل السوريين، قليلو الحديث، خصوصا في ما يتعلق بأوضاع بلادهم، ونشاطهم الأكبر في مجال العقارات، غير أن بعضهم ترك بصمة بمطاعم لتقديم المأكولات الليبية، وهي تمثل “غيتو” خاصا بهم، فيجتمعون فيها للسمر وتبادل الحديث.

بمجرد أن أنهت مجموعة من الأصدقاء في الصف الثالث الإعدادي يومها الدراسي في مدرسة النجم الساطع الليبية في مدينة نصر، وهي مدرسة خاصة بالجالية تقدم التعليم الليبي ويُسمح لخريجيها الالتحاق ببعض الجامعات الخاصة المصرية، توجهت إلى مطعم “هاوس فود” المتخصص في تقديم المأكولات الليبية على بعد 500 متر.

المطعم لا يرتاده سوى الليبيين، حيث يجلس الأصدقاء ويطلبون المقلوبة، ويتبادلون الحديث والضحك كأنهم غير عابئين بما يحدث في بلادهم، وبعد الحديث مع المراهقين، ينكشف خطأ الاعتقاد الأول، يتأكدون قبل الإدلاء بأي حديث “المهم ألا تكونوا على صلة بالأتراك.. الأتراك الآن أعداؤنا”.

يمكث المراهقون وعائلاتهم في مصر، بعضهم جاء منذ ثماني سنوات، والبعض فر مؤخرا بعد توالي الحديث عن غزو تركيا للأراضي الليبية، ما يعني أن البعض وصلوا إليها أطفالا غير مدركين لتعقيدات المشهد، ويعددون الآن القبائل التي ينتمون إليها ومواقعها.

طرابلس لليبيين
طرابلس لليبيين

وبعضهم الآخر ينحدر من سرت على بعد 500 كيلومتر من طرابلس، وآخرون من ترهونة ودرنة وبنغازي، وحتى مصراتة الواقعة في قلب مناطق الصراع، جميعهم يؤكدون دعمهم للجيش ورفضهم للميليشيات.

إجاباتهم على سؤال حول رغبتهم المستقبلية في التخصص الدراسي، جاءت كلها على صلة بالحرب، بين الطيران والمدرعات والدراسات اللوجيستية، في مؤشر يوحي بتأثيرات الحرب على رغبات المراهقين عن بعد. جاء شاب ثلاثيني إلى القاهرة للعلاج من مرض في القلب، ورغم أن مرضه ظاهر منذ سنوات، فقد استثمره أخيرا للفرار بحياة طفليه وزوجته.

وتخضع عمليات سفر الشبان الليبيين إلى القاهرة لإجراءات صارمة، فيما تيسر الإجراءات على الحالات الصحية.

ويتطلب السفر عبر شرق ليبيا لمصر، دون الحالات المرضية، تقديم طلب يستغرق فترة في التدقيق من قبل المخابرات الليبية التابعة للجيش الوطني الليبي، للتأكد من عدم تورط صاحبه في الميليشيات، كما يخضع للتدقيق في مصر، ثم تخرج تصريحات في قائمات تتجدد كل فترة.

حصلت “العرب” على  قائمة تضم 40 اسما ممن سمح لسفرهم يوم 20 يناير الجاري، 36 منهم شبان بين الـ25 و40 عاما، و6 فقط تجاوزوا الأربعين، بينهم سيدتان، في مؤشر على الرغبة المتزايدة للنزوح بين الشبان.

نضال عن بعد

 تمكث الناشطة والإعلامية الليبية فاطمة غندور في القاهرة منذ سنوات للدراسة، ومع تطور الأحداث باتت مصدرا في صحف وقنوات إخبارية عدة، خصوصا وهي تنحدر من العاصمة طرابلس.

تقول غندور لـ”العرب” “ليس يسيرا أن يتحول بلدك إلى خبر عاجل وتصبح مطالبا بتفكيكه، في مدينتي طرابلس مجموعات مسلحة تصادر حق الرأي وزملاء لي اعتقلوا لأسباب واهية ملفقة، لكنها في الأصل مصادرة لرأيهم حول الأوضاع والممارسات التي فيها عنف وانتهاك لحقوق المواطن”. وتضيف “نالني التهديد المباشر، والاختراق المتكرر لصفحتي، ومساومات لأكف عن إبداء الرأي، خاصة وهو يتاح لنا لأول مرة، فلم تكن في ليبيا صحافة مستقلة، ولا من يتحدثون حول حقوق مدنية للمواطن”.

وتتواصل الناشطة بشكل يومي مع أسرتها ومصادرها في طرابلس، على نحو يجعلها تقف على تطورات الأوضاع كأنها في الوطن، “يصيبني القلق على أهلي ومعارفي مع أي خبر لتصادم مسلح”.

تتمنى غندور أن تشهد المرحلة المقبلة نشاطا أكبر لردع التدخل التركي السافر في بلادها، قائلة “لو توافرت قوى عربية تفصل في الأزمة الليبية، ليس تدخلا، هو إيجاد صيغة تفاهم وبنود تفاوض بين طرفي الأزمة، وأي خلاف في البيت الواحد عادة يحضر طرف ثالث ليقارب بين الطرفين، والأفضل بالتأكيد من له مشتركات جيرة وجغرافيا وقواسم مشتركة”.

تقترب وتبتعد رؤى الليبيين للحل، ينبسطون وينقبضون في الحديث، يحللون أو يبادرون بإنهائه قبل أن يبدأ بدعوى عدم الرغبة في الخوض في أمور السياسة، في حجة غريبة خصوصا عندما تصدر من مديرة مدرسة الجالية الليبية زهرة بيزان التي يشاع تدريسها لسياسيين بينهم العقيد الراحل معمر القذافي وعدد من أبنائه، ومع كل ذلك، ثمة مشترك وحيد بين الجميع، يمثل جرحا غائرا وضبابية، وهذا ما تخلفه الحروب عادة.

أياد تركية تشعل الفتنة لدى شعب يحب الحياة بسلام #طرابلس #أنشطة_تركيا #معركة_طرابلس
البحث عن فسحة أمل

 

20