ليبيا تغرق في الفساد في غياب إرادة سياسية لانتشالها

ترزح ليبيا تحت وطأة تفشي الفساد، الذي ضرب كل مفاصل الدولة، وأصبح محركا أساسيا للفعل السياسي، فيما تنشغل الطبقة المتحكمة في المشهد في توزيع الاتهامات، محاولة بذلك التملص من دورها في تغذية الظاهرة.
طرابلس - أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبدالحميد الدبيبة، عن إعداد أول إستراتيجية وطنية لمراقبة الأداء ومكافحة الفساد 2025-2030 ، لكن مراقبين يشككون في جدوى الخطوة، معتبرين أن الفساد تمكن من كل مفاصل الدولة، وأن لا إرادة حقيقية لمواجهة الظاهرة، وجل ما يصدر عن المتحكمين في المشهد هو للتسويق الداخلي.
وجاء الإعلان بمناسبة إحياء اليوم العالمي لمكافحة الفساد وبروتوكول توقيع الإستراتيجية الوطنية للرقابة على الأداء ومكافحة الفساد والوقاية منه 2023-2025، حيث أكد الدبيبة، أن توقيع البروتوكول يمثل خطوة جوهرية نحو مواجهة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، مشيرا إلى أن إجراءات الحكومة تخضع لرقابة شاملة من كافة الأجهزة الرقابية، سواء القبلية أو المصاحبة أو البعدية، بهدف ضمان الشفافية وإدارة المال العام وفق أعلى المعايير.
وحاول الدبيبة تبرئة حكومته، بتوجيه أصابع الاتهام إلى السلطات في شرق البلاد بصرف عشرات المليارات وإهدار المال العام دون سند قانوني ورقابة، واصفا ذلك بـالظاهرة الخطيرة.
وقال رئيس حكومة الوحدة إن “حماية المال العام ومكافحة الفساد على رأس أولويات الحكومة، لما لهما من تأثير مباشر على استقرار مؤسسات الدولة وتعزيز التنمية المستدامة،” وتابع “رغم التشويش على عملنا في تعزيز مبدأ الشفافية وضعنا معاملاتنا الحكومية تحت يد الرقابة،” معتبرا أن “الإستراتيجية تمثل خارطة طريق لمكافحة الفساد وتنظم العمل الرقابي وتحسين الأداء الحكومي.”
وأشار الدبيبة إلى “الإنفاق الموازي غير الخاضع للرقابة يمثل ظاهرة مضرة للبلاد حيث تم صرف 40 مليار خلال العام 2024.” لافتا إلى أن “ما صرف في سنة واحدة في الإنفاق الموازي يوازي ميزانية التنمية للدولة الليبية خلال أربع سنوات.”
ورأى الدبيبة أن هذا الإنفاق الذي تحتكره مجموعة واحدة تابعة للبرلمان، في إشارة إلى صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبي الذي يديره بلقاسم خليفة حفتر، “لا يساهم في الاقتصاد الوطني ويمثل ظاهرة مضرة للبلاد”، مبرزا أن الأخطر من ذلك أن “الأموال تسحب نقدا وتصرف في السوق السوداء،” وفق قوله.
ويقول متابعون إن الفساد ضرب كل مؤسسات الدولة في ليبيا وأصبح ظاهرة واسعة النطاق، وتحول إلى عنصر أساسي في الحراك السياسي والاجتماعي وفي بنية الدولة، وهو اليوم المتحكم الفعلي في مراكز القرار بينما يصنف 40 في المئة من الشعب تحت خط الفقر.
ويرى المتابعون، أن الحديث عن مقاومة الفساد أصبح يتردد في حالات كثيرة على ألسنة متورطين رئيسيين في الفساد وفي نهب المال العام وإهداره والعبث بمقدرات الدولة عبر العقود والصفقات المشبوهة وظهور الحيتان الكبيرة بشكل متواتر في محيط السلطات السياسية ودوائر الأسر الممسكة بمقاليد السلطة في طرابلس وبنغازي.
وقال رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي، إن المجلس ينظر بقلق إلى ما ألحقه الفساد من أضرار في البلاد، وأن مكافحته ليست مجرد ضرورة أخلاقية فحسب بل هي شرط أساسي لتحقيق التنمية الشاملة، وحماية مقدرات الشعوب، مشددا على أن الفساد بصوره المعقدة وتأثيراته العميقة يهدر الموارد المالية والبشرية ويعوق التقدم في المجالات كافة.
ودعا المنفي، إلى تبني نهج شامل ومتعدد المحاور لمنع الفساد ومكافحته بفاعلية، مع توحيد جهود الجهات المعنية كافة.
وحلّت ليبيا في المرتبة 170 في مؤشر مدركات الفساد للعام 2023، مرتفعة مرتبة واحدة عن العام 2022 حين جاءت في المرتبة 171 من أصل 180 دولة يشملها المؤشر، وجاءت متأخرة عن السودان وتشاد وأفغانستان التي احتلت جميعا المرتبة 162، وأيضا العراق الذي جاء في المرتبة 154، بينما سبقت كل من الصومال وفنزويلا وسوريا وجنوب السودان واليمن الموجودة في المراكز الأخيرة على المؤشر.
مراقبون يرون أن الفساد تمكن من كل مفاصل الدولة، وأن لا إرادة حقيقية لمواجهة الظاهرة
وفي أحدث تقرير له، أعلن المصرف المركزي في بيان نهاية الأسبوع الماضي، تحقيق إجمالي إيرادات بلغت 86.3 مليار دينار ليبي، بينما بلغ إجمالي الإنفاق العام 84.6 مليار دينار، كما سجل عجزا في ميزان المدفوعات قدره 6.1 مليارات دولار حتى نهاية نوفمبر 2024، نتيجة انخفاض إيرادات النقد الأجنبي التي بلغت 17.1 مليار دولار مقارنة بـ22.3 مليار دولار في نفس الفترة من العام الماضي.
وأطلق النائب العام، الصديق الصور، تحذيرات واضحة حول تفشي الفساد في ليبيا. حديث الصور كان بمثابة تشخيص دقيق لإحدى أعقد المشكلات التي تعاني منها البلاد، وهي مشكلة لم تقتصر آثارها على الجانب الاقتصادي، بل امتدت لتنال من مقومات المجتمع كافة. وأوضح أن الفساد ليس مجرد جريمة جنائية منفردة، بل هو انعكاس لفشل مجتمعي أوسع. وأن ليبيا، التي تعاني منذ سنوات من الصراعات والانقسامات السياسية، أصبحت حاضنة لجرائم فساد غير مسبوقة.
وتابع الصور أن الفساد آفة تعاني منها ليبيا طيلة السنوات السابقة، مضيفًا أن كلفته كانت باهظة على حساب الخدمات التي يحتاجها المواطنون. وقال إن الجريمة والفساد لا يعبران فقط عن قصور في تطبيق القانون، بل عن فشل في المجتمع كله، لافتا إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدا في نسبة الإجرام وانتهاك حرمة المال العام، وهو ما أدى إلى تعاظم معاناة الشعب، الذي بات يفتقر إلى أبسط حقوقه في العيش الكريم.
ليبيا حلّت في المرتبة 170 في مؤشر مدركات الفساد للعام 2023، مرتفعة مرتبة واحدة عن العام 2022
وأبرز الصور أن الفترة الأخيرة شهدت ظهور طبقة طفيلية تمتلك كل شيء، بينما يعاني باقي الشعب من الحرمان. هذه الطبقة أصبحت رمزا للفجوة الكبيرة بين قلة تستحوذ على مقدرات الدولة وأغلبية تعاني من الفقر، مشيرا إلى الدور الكبير الذي لعبه الانقسام السياسي في تعاظم جرائم الفساد. مشددا على أن الانقسامات المتكررة بين الأطراف المتناحرة على السلطة أدت إلى تولد أنماط جديدة من الجرائم، يحصل أصحابها على الحماية اللازمة من أطراف ذات نفوذ.
ودعا إلى ضرورة مواجهة هذا الفساد بقيادة مخططات كلية تعمل على رد آثاره المدمرة لمقومات المجتمع. وأكد على أهمية التنسيق بين مختلف سلطات الدولة لوضع سياسات تكفل مساءلة المسؤولين عن الفساد ومحاسبتهم، وأكد على ضرورة على تعزيز الحوكمة والشفافية لفرض سيادة القانون العادل على الجميع، وتحقيق العدالة النزيهة، وبناء مؤسسات خاضعة للمساءلة، مشددا على ضرورة تحديث الوسائل المستخدمة في مكافحة الفساد، مشددًا على ضرورة وضع هذه الآليات ضمن الأطر الرئيسية للتنمية في الدولة.
من جهتها شددت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، على أن مكافحة الفساد تتطلب جهودا منسقة بين السلطات الوطنية والمؤسسات السيادية والمجتمع المدني وجميع الليبيين، وخاصة الشباب.
وفي بيان بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة الفساد، سلطت البعثة الضوء على الحاجة الملحة إلى الحكم الرشيد والمسؤولية والمساءلة المالية والشفافية والرقابة والإدارة العادلة للموارد لصالح جميع الليبيين، واعتبرت هذه المبادئ، التي أقرتها قرارات مجلس الأمن، أساسية لجعل ليبيا أكثر استقرارا وازدهارا وعدالةَ للجميع، مؤكدة أنها ستواصل دعم الجهود الليبية لتعزيز هذه المبادئ من خلال العملية السياسية والبرامج الأخرى، على تعبير البيان الصادر عنها.
ولا يكاد يوجد مجال لم يضربه الفساد في ليبيا، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة عن جدية الإجراءات المحلية والدولية للتصدي للظاهرة، لاسيما أن أغلب أصحاب القرار السياسي في البلاد مرتبطون ببارونات وأباطرة الفساد أو متحالفون معهم عل أساس المصالح المشتركة في ظل غياب الرقابة الفعلية ومع اتساع دائرة تهريب النفط والوقود والتلاعب بالصفقات والاعتمادات المستندية وسيطرة اللوبيات على الصفقات الكبرى والعبث بمصير الدولة والمجتمع عبر استبعاد الحل السياسي والمصالحة الوطنية والإبقاء على حالة التوتر والأزمة للتمسك بالسلطة إلى أجل غير مسمى والاستفادة من امتيازاتها في نهب المزيد من المال العام.