ليبرالية العمل بدلا من بطالة التأملات الأيديولوجية

عزيز أخنوش يملك كل ما يحتاجه لكي ينجح ويقدم مثالا لمعنى أن تكون رجل أعمال في إدارة العمران ونموذجا صائبا لمشروع لا تتسع افتراضاته النظرية إلى ما هو أبعد من الواقع.
الخميس 2021/10/21
يملك مقومات النجاح

إعدادُ برنامجِ عملٍ يُفترض ألا يكون أمرا صعبا. ثمة مداخل معروفة لذلك. وهي تُحصي الفراغات في العمران الاجتماعي والاقتصادي وتسعى لسدها. وهو ما يستدعي النظر في الموارد المتاحة وما يمكن إضافته إليها من قبل أن تنطلق ورشة العمل.

وثمة من الموارد ما يمكن أن يُستنهض بتشجيع الاستثمار المحلي واستقطاب رؤوس الأموال الوطنية، ومنها ما يمكن أن يمتد إلى الاقتراض من الخارج. وطالما أن لكل مشروع عائدا، فإن الاستدانة عليه ليست مشكلة بحد ذاتها، طالما أن المشروع مدروس في فوائده والحاجة إليه، وطالما أن العائد مصون.

العملية التنموية بهذا المعنى قد تحتاج أفكارا وتأملات وتطلعات، إلا أنها كلما كانت أفكارا محددة الغاية، لا تختلطُ بحابلٍ ولا بنابل، فإنها تبلغُ مقاصدها دونما حاجةٍ إلى صداعٍ نظري زائد.

وهي عمل من أعمال الرياضيات على نحو معين (موارد مع تكاليف مع خبرات مع جدوى تساوي مشروعا يعطي عائدا).

ربنا أعطى بعض الناس موهبةً في هذا الحساب، بينما أعطى غيرهم موهبة في كثرة الحكي، ممن لا يصلحون لإدارة قرية من عشرة منازل. فإذا وضعتهم على رأس شعب خربوا مصالحه، وبددوا خبراته، ودفعوا فرصه إلى التآكل. وهذا ما ظل يفعله دعاةُ السرديات العظمى: الاشتراكية والشيوعية والقومية والإسلامية وغيرها.

هؤلاء يأتون إلى العمران من فوق، بينما يأتيه رجال الأعمال والليبراليون من تحت، فهم إذ يعرفون تفاصيل التفاصيل في حساب الرياضيات التنموية، يوم كانت تخرج مواردها من جيوبهم وتعود إليها، فإنهم ليسوا معنيين بالضرورة بما تفضي إليه من كلام، وإنما بما تفضي إليه من نتائج.

والمشكلة لا تمكن في السرديات نفسها، في حدود ما قد تعنيه كفلسفة. ولكنها ما أن تتحول إلى “قسريات” تُملي توجّها إجباريا على المجتمع حتى تتحول إلى عثرة لا يستطيع المجتمع القفز من فوقها، فيغضب الثوريون، ولا العودة إلى الوراء، فيغضب الناس بما يكون قد حلّ بهم من فقرٍ وجوع.

وما من أحد إلا وينطلق من رؤيا. ذلك جزءٌ من طبيعة الحاجة إلى تحقيق رغباتٍ وتغذيةِ دوافع. إلا أنك إما أن تكون راكبها، أو أن تكون هي راكبك.

الإسلاميون والشيوعيون وكل الباقي من أمثالهم مركوبون بما حملوا في جعباتهم من أفكار وتصورات. وليس من عجبٍ أن تكون نتائجُهم موضوعا للسخرية بأمرين: عندما تنسى أن شجرة الواقع هي الخضراء، بلطف من كارل ماركس، بينما شجرة النظرية رمادية. وعندما تتجاهل أن التنمية حسابٌ يتمرغُ في طين الواقع.

شيءٌ واحدٌ تلطفَ بالمغرب عندما تولاه الإخوان هو أن عمران الدولة قائم على مؤسسةِ رأسٍ راسخ.

شيءٌ مماثل أنقذ مصر منهم هو أن مؤسسة الجيش كانت وما تزال هي عمود ذلك العمران.

وإحدى أبرزِ القيم في هذين العمرانين هو أن الكيان السياسي فيهما كيانٌ نهائيٌ وثابت. المغرب هو مغرب نهائي، وبدلا من أن تأخذه الأيديولوجيات إلى قالبها الفالت، فإن نهائية كيانه ظلت تجبرها على أن تنحصر هي في قالبه، وتمتثل إلى اشتراطاته الوطنية، لا العكس.

لقد كان القبول بتوليهم السلطة ضربا من شجاعة الرأس، إلا أنه كان رأسا يعرف ما يملك.

وفي مصر، فقد فشل الإخوان فشلهم الساحق، لأنهم لم يتعلموا الدرس من قومية جمال عبدالناصر عندما فشلت هي الأخرى في أن تكون عابرة للحدود أو ذات أفق فالت. فلم تقدر أن تأخذ مصر إلى وحدة عربية برغم كل خطابها الثائر، ففشلت وحدتها مع سوريا لسبب لم يلحظه الكثيرون، هو أن مصر ذهبت إليها ككيان نهائي، ففرضت على سوريا أن تكون مجرد ملحق وتابع، بينما كانت سوريا هي الأخرى تملك من تكامل المعنى الكياني ما يبرر لها أن تكون شاما تجدر بالاحترام.

وليس من عجبٍ أن البعثية هناك لم تقدر هي نفسها أن تمارس قوميتها على البعثية العراقية، فانهارت تجارب الوحدة حتى بين الذين يتبنون سردية واحدة.

ولئن لم يحظ اليساريون، لحسن حظهم، بالسلطة في أي بلد عربي بسبب التفارق الهائل بين اللينينية والواقع، لعل الوقت يأتي لكي يتعلموا فن الحساب، فإن حسن حظهم يكمن في أن سجلهم النظري الحالم لم يلحق به فشلٌ مروع يُوقظ الناسَ على كوابيس مثلما حصل مع الإخوان المسلمين.

هناك اليوم في المغرب تجربة ليبرالية تبدو “ناصعة”، لأنها تصدر من رجل أعمال أكثر منه رجل سياسة، بما لا ينقص من خبرته فيها.

عزيز أخنوش رجل أعمال لا رجل حكايات ممتعة. لا يضمن ذلك نجاحا مسبقا، إلا أنه يعرف كيف يحسب على الأقل.

وهذه تجربة جديدة في الواقع لا يناظرها عالمنا العربي المعاصر إلا رجلان: الأول، رفيق الحريري الذي تولى الوزارة مرتين بين عامي 1992 – 1998 ثم 2000 – 2005، فأعاد بناء لبنان من خراب الحرب الأهلية. والثاني، هو نجيب ميقاتي الذي لم يسعفه الحظ في تجربته الأولى التي استمرت بضعة أشهر بين أبريل ويوليو عام 2005 عقب اغتيال رفيق الحريري، ولا في تجربته الثانية بين يوليو 2011 ومارس 2013، وما يزال السجال مفتوحا حول فرص تجربته الثالثة. عمران الدولة المدنية في لبنان ظل هو الغائب. فغرقت ليبرالية العمل بين قتلٍ ونزاعاتِ طوائف.

يملك أخنوش كل ما يحتاجه لكي ينجح. ويمكن أن يقدم مثالا لمعنى أن تكون رجل أعمال في إدارة العمران.

سوف يكون من الحري به أن يقدم النموذج الصائب لمشروع لا تتسع افتراضاته النظرية إلى ما هو أبعد من الواقع، ولا تضيق على الحساب المجرد لأن إدارة مصالح شعب تختلف عن إدارة مصالح شركة رغم أن جوهر الحساب واحد.

الرواية في الليبرالية السياسية عملٌ يقودُ أحلاما، بينما الرواية في السرديات العظمى أحلامٌ تقودُ أعمالا. الأولى، قد لا تأتي بالفردوس. ولكن الثانية، بحسب التجربة، لم تأت إلا بالكوابيس.

9