لورانس في شبه الجزيرة العربية: الحرب والخداع والحماقة الإمبريالية وصناعة الشرق الأوسط الحديث

رواية تاريخية عن التجسس تكشف كواليس الانتداب البريطاني لفلسطين.
الأحد 2021/08/08
حقائق تاريخية صنعت عالمنا الجيوسياسي اليوم

يكشف كتاب لورانس في شبه الجزيرة العربية لصاحبه سكوت أندرسون تفاصيل رحلة الضابط البريطاني المعروف بـ”لورانس العرب” إلى الشرق الأوسط خلال فترة الحرب العالمية الثانية في رواية تحمل طابع التجسس كما تشكل دراسة تاريخية ذات أهمية، حيث ينقل الكاتب إلى القارئ كواليس تلك الفترة بتسليطه الضوء على عش من المتلاعبين وهي الشخصيات السياسية التي ساهمت في قيام الانتداب البريطاني في فلسطين، والتي أشعلت فتيل نزاع مازالت المنطقة ترزح تحت وطأته.

واشنطن - نادرا ما يفوق كتاب التوقعات كثيرا، و"لورانس في شبه الجزيرة العربية" هو أحد تلك الكتب التي قدمت رواية تاريخية متقنة الصنع عن خفايا الحرب وصناعة الشرق الأوسط الحديث حسب الكاتب جيم مايلز.

ويقدم مايلز تقييمه وقراءته لكتاب "لورانس في شبه الجزيرة العربية"، تلك الرحلة التاريخية المثيرة للفضول، وبرأيه فإن كتابات سكوت أندرسون مسلية وغنية بالمعلومات في نفس الوقت وتقدم حقائق تاريخية لافتة.

ويقول في بداية تقديمه للكتاب "أنت تقرأها بطريقة تعطي الانطباع بأنها رواية تجسس وليست دراسة تاريخية. إنها أكثر من مجرد قصة توماس إدوارد لورانس، على الرغم من أنه الشخصية التي يدور حولها جميع الآخرين في هذا المنظور. إنها قصة تتضمن مجموعة من الشخصيات غير الكفؤة، والكاذبة، والمخادعة، والمتلاعبة في أفضل حالاتها الإمبراطورية".

الشخصيات

يعرف الأشخاص الذين قرأوا تاريخ الحرب العالمية الأولى وتداعياتها الشخصيات على نطاق واسع. ويلفت مايلز إلى أن سكوت أندرسون بذل جهدا رائعا في البحث عن الشخصيات الرئيسية التي سافرت عبر الشرق الأوسط، والتي واجهت بعضها أحيانا، وكانت دائما في حالة تنقل، وتبحث عن مصلحتها.

وبالترتيب الأبجدي، يأتي آرون آرونسون أولا. ويوصف بأنه مهندس زراعي متفائل ومتعجرف وذكي أقام العديد من المشاريع البحثية في فلسطين في الغالب لزيادة الاهتمام بدولة يهودية في المنطقة. وعمل في كلا الجانبين، حيث خدم في البداية الإمبراطورية العثمانية (التي كان مواطنا فيها) ثم أنشأ شبكة تجسس أثبتت فعاليتها، وتجاهلها البريطانيون حتى وقت متأخر جدا من الحرب.

كما كان للفرنسيين جاسوسهم المحلي وهو العقيد إدوارد بريموند الذي تولى مسؤولية السياسة الفرنسية في المنطقة. وبينما كان "يوفّق بين أجندتين متناقضتين إلى حد كبير"، توصل إلى مارك سايكس، وهو سياسي بريطاني ومستشار دبلوماسي لشؤون الشرق الأوسط، على أن "لديه موقفا وسياسة منحرفين بشكل متعمّد".

"لورانس في شبه الجزيرة العربية" هو أحد تلك الكتب التي قدمت رواية تاريخية متقنة الصنع عن خفايا الحرب وصناعة الشرق الأوسط الحديث حسب الكاتب جيم مايلز.

وشغل أحمد جمال باشا منصب حاكم سوريا التي كانت تضم معظم الدول الحديثة في الشرق الأوسط في ذلك الحين. وكان أسلوبه الإداري متذبذبا حيث "كان يتأرجح بين الشدة المستعرة والشهامة اللطيفة، غالبا في نفس المحادثة، مما كان يبقي كل من حوله في حالة اختلال دائم من التوازن".

وكان لألمانيا ممثلها في الإمبراطورية العثمانية كيرت بروفر، السكرتير الشرقي الألماني. وبصفته رئيسا للمخابرات الألمانية للمنطقة، كان جاسوسهم الرئيسي أيضا، ووُصِف بأنه "ساحر بارع" و"مُغرٍ سيء السمعة".

ولعب مارك سايكس دورا قويا في هذا العش من المتلاعبين. كانت لديه "غطرسة عابرة"، "كان ذبابة أرستقراطية.. وكاذبا أيضا". بينما كان يتمتع بـ"فكر خصب"، كان "يتناقض مع المواقف أو السياسات التي كان ينادي بها في وقت سابق.. غالبا قبل أيام قليلة".

فكيف ستكون الحرب دون "عميل خاص" لوزارة الخارجية الأميركية؟ عمل ويليام ييل، من العائلة التي أسست جامعة ييل، في وظيفتين أخريين هما دور الملحق العسكري لقوة المشاة المصرية (البريطانية)، بالإضافة إلى مواصلة خط عمله العادي كموظف منتظم إلى حد ما في ستاندرد أويل.

هناك بالطبع العديد من الشخصيات الأخرى، لكن المجموعة المذكورة أعلاه تلخّص مجمل الحكاية. كان "الآخرون" الأكثر أهمية (كما تعتبرهم الروايات الغربية في الغالب) هي الأطراف العربية التي تفاعل معها لورانس وزملاؤه بطرق مختلفة، ويحاولون التلاعب بهم دائما لمصلحتهم الخاصة.

كان على فيصل بن الحسين أمير الحجاز أن يتعامل مع كل العلاقات المزدوجة لأشخاص مثل سايكس. وفي نفس الوقت، كان عليه العمل مع العديد من القبائل والقرى العربية المنفصلة، وكان ابن سعود خصمه الرئيسي. ولعب ابنه عبدالله بن الحسين دورا مهمّا في المنطقة التي عمل فيها لورانس. فبعد الحرب، سرعان ما دمرت المصالح البريطانية والفرنسية في المنطقة أحلامه وخططه لإقامة دولة عربية.

أما بالنسبة إلى الممثلين البريطانيين، فلم يفكر لورانس بهم من منظور إيجابي. ويُنظر إلى الجيش على أنه "جدران منيعة من البلاهة العسكرية". فكما بقيت الأمور على حالها وبالنسبة إلى السياسيين فيُنظر إليهم على أنهم يخدمون أنفسهم، دون خيال، وهم في الأساس مجموعة من الناس الأغبياء إلى حد ما.

ذات مرة في فلسطين

أرشيف موثق

كما هو الحال مع معظم روايات الغموض/التجسّس الجيدة، يجتمع طاقم الشخصيات في نهاية القصة لحل مختلف سيناريوهات الخداع. وقدمت كل هذه الشخصيات نفسها في فرساي، حيث أنشئت "الحرب لإنهاء جميع الحروب" أساسا الإعداد للحرب العالمية الثانية ووضعنا الحالي في الشرق الأوسط.

وفي حين تدور أحداث قصة "لورانس في شبه الجزيرة العربية" إلا أنها تقدّم بشكل مثير للدهشة مراجعة للتاريخ الفلسطيني في تلك الحقبة وكيف اجتمعت العوامل المختلفة لقيام الانتداب البريطاني في فلسطين وتقديمه ترخيصا غامضا لتوطين المهاجرين اليهود في فلسطين.

وكان لمارك سايكس دورٌ مهمٌ في ذلك، بينما أقر بأن "العرب المسيحيين والمسلمين على حد سواء سيقاتلون حتى آخر رجل ضد السيادة اليهودية في فلسطين"، فإنه أراد استخدام "الصهيونية كوسيلة موالية لبريطانيا في فلسطين" وعقد اجتماعات مع كبار الصهاينة البريطانيين دون علم وزارة الخارجية أو وزارة الحرب. ولعبت اتفاقية سايكس بيكو، التي جرى التفاوض عليها بسرية نسبية، وفي تناقض مع اتفاقية مكماهون حسين، دورا محوريا في تسويات فرساي النهائية.

مارك سايكس لعب دورا قويا في هذا العش من المتلاعبين، كانت لديه غطرسة عابرة، كان ذبابة أرستقراطية وكاذبا أيضا

لعب آرونسون دورا مهمّا. وعلى الرغم من أنه لم يدافع عن القتال في حد ذاته، إلا أنه دعّم القوة، "لم يكن المستقبل النهائي لفلسطين.. محمية بريطانية تتمتع فيها أقلية يهودية بالحماية، بل أمة يهودية بحكم الأمر الواقع. ويمكن تحقيق ذلك على الصعيدين السياسي والاقتصادي، حيث يشتري الصهاينة ببساطة كل الأراضي الواقعة بين غزة وحيفا وإجبار الفلاحين على ترك الأرض".

وكتب ويليام ييل عن مخاوف لورانس من أن "العرب لا يثقون بكلام إنجلترا وفرنسا، وأنهم يعتقدون فقط أن مثل هذه الأراضي التي يمكنهم تأمينها بقوتهم العسكرية ستكون لهم". وعكس لورانس لاحقا في أحد "تعليقاته الأكثر وضوحا.. أنه إذا أنشئت دولة يهودية في فلسطين، فيجب أن يكون ذلك بقوة السلاح والمحافظة عليها بقوة السلاح وسط سكان معادين بشكل كامل".

بعيدا عن قصة الشخص الواحد، كان "لورانس في شبه الجزيرة العربية" عملا متقن الصنع يقدم تفاصيل وشخصيات مفعمة بالحيوية في هذه السنوات المهمة للغاية لتطوّر عالمنا الجيوسياسي الحديث. وباعتبارها "رواية" تاريخية عن التجسس، ستكون إضافة رائعة لفصول التاريخ المتعلقة بأي من الأبعاد التي جرت مناقشتها أعلاه وأكثر.

ويمكن أن تشكّل بمفردها مرجعا وبالتالي تخلق مستوى من المؤامرات والاهتمام مما يؤدي إلى رغبة القارئ وحاجته إلى إجراء المزيد من الاستفسارات في هذا التاريخ. بدلا من ذلك، إنه منظور ممتاز وضروري للتواريخ الكئيبة عادة التي تغطي هذه الفترة الزمنية. وهذا ما يجعل التاريخ مثيرا للاهتمام، حيث ينزل به إلى المستوى الإنساني للشخصيات بكل قدراتها وكل عيوبها وجميع التداعيات التي ما زالت سارية حتى اليوم.

Thumbnail
07