لوحات فنية تغني بوح صباح فخري

لا يرحل المبدع من حياة الناس، ربما يغيّب الموت جسده لكن فنه وتأثيره وذكراه تبقى أبدا في ضمير الناس وتقدم المزيد من العطاء. ورغم أن صباح فخري الفنان العربي السوري الذي قدم فنا تغنى به الكثيرون على امتداد الوطن العربي لمدة قاربت الخمسين عاما، رحل قبل أشهر، إلا أن معرضا فنيا تشكيليا أقيم في دمشق احتفى به وبأغانيه بطريقة مختلفة، حيث ترجم العارضون أغانيه إلى مساحات من اللون والضوء.
في تناغم فني نادر، قدم مجموعة من الفنانين التشكيليين في سوريا معرضا فنيا في دمشق وحلب نظمته جمعية شموع السلام برعاية وزارة الثقافة، ويتضمن عرض خمس وثلاثين لوحة فنية عمل أصحابها على رسمها من خلال ترجمة معاني أغنيات الفنان الكبير صباح فخري الذي رحل قبل أشهر.
ففي صالة الرواق العربي بدمشق تم مساء السادس عشر من يناير الجاري افتتاح المعرض بنسخته الدمشقية بحضور عدد من التشكيليين والمهتمين بفن “صناجة العرب” فخري، وسوف ينتقل المعرض لمدينة حلب مسقط رأس الفنان فخري ليقدم هناك لمدة أيام بدءا من الرابع والعشرين من الشهر الجاري.
وقال رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين عرفان أبوالشامات الذي حضر حفل افتتاح المعرض، إنه تحية لروح الفنان السوري الكبير الذي لا يمكن أن ينسى، وبيّن أن المعرض يعنى بتقديم فكرة مفادها أن الفنون يمكنها أن تتكامل لكي تصل إلى تحقيق مكاسب جمالية أكبر.
وبالفعل، يعتبر المعرض حالة تكامل بين الموسيقى والغناء والرسم. ويوضح الفنانون المشاركون والجهة المنظمة أنهم هدفوا من خلاله إلى تكريس قيمة فن فخري في وجدان الجمهور السوري وهو الذي قدم عبر ما يزيد عن النصف قرن إبداعات موسيقية وغنائية قيّمة تعد علامة فارقة في تاريخ الفن السوري الحديث، واستطاع بها حفظ التراث الحلبي والعربي عموما في أعمال غنائية مختلفة عاشت مع جمهور الشباب الذي يتقبلها بشغف.
وعاشت أغاني المطرب الراحل فخري في وجدان الناس في سوريا والوطن العربي عامة، وهي التي حملت مزاجا شعبيا غارقا في المحلية سواء من حيث الموسيقى التي جاء قسم منها من الموروث الشعبي أو الديني للمنطقة أو من خلال الزجل أو الشعر الذي غناه وكان في بعضه من عيون الشعر العربي القديم والحديث. فخلّدت أغانيه في ذاكرة الشعوب تتردد دائما في أجواء الطرب فلا يكاد يخلو مجلس غناء في سوريا إلا وتتصدر أغانيه مساحة من الحفل أو المجلس ضامة كل فئات الناس إليها.
طيف من الأفكار
عن كيفية تلقي الفكرة من خلال أغنية ثم ترجمتها إلى خطوط وألوان، يبيّن بعض الذين شاركوا في المعرض بأن أغنيات فخري قدمت تنوعا عريضا شمل فنون القصيدة والموال والدور والقد وغير ذلك، ومن خلال كل هذا تحدث عن الحب والغربة والحنين والوطن والزهر والبحر… لذلك لم يكن صعبا أن نتناول موضوعات أغنياته برسوماتنا، والمشكلة لم تكن في إيجاد الفكرة بل بتنفيذها على الشكل الذي ترسخ في أذهان الناس من خلال فهمهم لتلك الأغنيات.
ومعروف أن الفنان فخري قدّم كل فنون الغناء العربي في الموشح والدور والقد والموّال والقصيدة. ففي القصيدة قدّم “قل للمليحة في الخمار الأسود” و”بيضاء لا خدر يشوب صفاءها” و”جاءت معذبتي في غيهب الغسق” و”خمرة الحب اسقنيها”، أما في الموشح فقدّم “لما بدا يتثنى” و”ملا الكاسات وسقاني” و”أحن شوقا” و”يا من يحن إليه فؤادي”.
وفي الدور خلد فخري أعمالا منها “يا ما نت واحشني” و”يلي تشتكي من الهوى”. وفي الغناء الشعبي قدم “يا مال الشام” و”يا طيرة طيري” و”طالعة من بيت أبوها” وفي القد غنى “كنا ستة على النبعة” و”قدك الميّاس” و”مالك يا حلوة مالك”. وفي الموال قدّم “يا حادي العيس” و”يا سايق الهجن” و”فتح بخدك ورد” وغيرهم.
ربة الوجه الصبوح
كان تناول الفنانين لفكرة لوحاتهم متباينا فالبعض رسم أشياء كالحي والشارع، فظهرت في شكل لوحات تشكّل أغنيات مثل ‘يا مال الشام’ الشهيرة فرسموا تكوينات لأحياء وشوارع.
كما قدم آخرون رسوما عن الحيوانات وتحديدا الأسماك التي استحضرتها إحدى المشاركات من خلال أغنية صيد العصاري يا سمك يا بني ورسمت لوحة ظهرت فيها أشكالا مختلفة للأسماك في تناسق لوني وموسيقي نادر.
كذلك حضر رسم البورتريه حيث ظهرت لوحات للفنان فخري على خلفية تلاوين في الخط العربي يتضمن بعضا من أشعار أغانيه.
وفي تناول للوجوه قدمت العديد من اللوحات كان من أهمها التي ظهرت فيها صورة لفتاة حسناء تحت مسمى ربة الوجه الصبوح، والتي قدمت رائعة فخري “خمرة الحب اسقنيها”، والتي يردد فيها جملة ربة الوجه الصبوح بأسلوب غنائي متفرد.
لوحة أخرى كونت خطوطها بشكل سديمي تداخلت فيها ألوان وحركة جسدين في تماه روحي وجسدي بينهما، وقد استوحيت من مغناة يا “ذا القوام السمهري حاوي الرضاب السكري عن ثغرك الزاهي اللمى” وهي التي تنتهي بالقول: كم ذا التجافي والبعاد أحرمت أجفاني الرقاد بادر وجد وأرعى الوداد يا الجبين الأنور.
تناول الفنانين كان متباينا فالبعض رسم أشياء كالحي والشارع فيما قدم آخرون رسوما عن الحيوانات تشير إلى لوحات صباح فخري
ومن بين العارضين، فنانة مشاركة تلقت شعر لسان الدين بن الخطيب الذي غناه فخري لاحقا وصار من عيون ما غنى:
جاءت معذبتي في غيهب الغسق كأنها الكوكب الدري في الأفق
فقلت نورتني يا خير زائرة أما خشيت من الحراس في الطرق
فجاوبتني ودمع العين يسبقها من يركب البحر لا يخشى من الغرق
فرسمت لوحة فيها البحر وموجه والحبيبة والغسق في تشكيل لوني متناغم اختصر كل هذه المعاني بلوحة واحدة كان عنوانها “جاءت معذبتي”.
كذلك حضرت لوحة تناولت موضوعا صوفيا عميقا ترجم معاني مغناة “اسق العطاش” التي تظهر في معانيها ابتهالات الناس لله كي يرسل المطر وتعدّ من أنبل وأرقى ما قدّم فخري. وظهرت في اللوحة شخصيات وهي تغني وترقص في حضرة مولوية.
وتناول الفنان محمود شباط، وهو أصغر المشاركين عمرا، موّالا شعبيا أداه فخري ويقول فيه: فتح بخدك ورد وأشكال وألوان بشميمها تنعش الغميان وألواني يابا لظل أهواك طول العمر والواني ذقت الأمرين ما أبغي وريد.
وقدّم شباط في تأويل الموال رسما فنيا لحسناء تمسك بيديها زهورا ندية لتخفي جزءا من جمالها، في حالة من عنفوان الجمال حيث تظهر ملامح الحسناء اللطيفة في سطوة جمالية نابضة بالحضور القوي.