لوحات الفنان الليبي محمود الحاسي: من الواقعية إلى التجريد

فنان يتحسس طريقه في عالم الوجوه بقلبه قبل أنامله.
الثلاثاء 2022/02/08
الطبيعة الليبية كما يصورها الحاسي

يقف الفنان الليبي محمود الحاسي طويلا أمام ملامح الوجوه والتراث التقليدي الذي يتميّز به بلده، ليعيد إنتاجه في أعمال تشكيلية تختصر في مجملها نظرة المتلقي لكل ما يحيط به، فهو وإن كان يصوّر أشياء واقعية فإنه في الغالب يركّز أكثر على مكامن الجمال والأحاسيس في كل ما يراه ويعيد تشكيله.

يمتلك الفنان الليبي محمود الحاسي القدرة على العمل بالجانب الفطري في الإنسان بمدارك فنان معاصر متقن للواقعية الجديدة، اكتسب قدرة هائلة في الرسم الواقعي من خلال موهبة كامنة منذ الطفولة مع تمارين رسم واطلاع واسع ودراسة لما تم إنتاجه من فن الرسم والتصوير الزيتي خلال رحلة التشكيل منذ بداياتها الأولى على جدران الكهوف مع البدايات الأولى للإنسان وصولا إلى الفنون المعاصرة وما تبعتها من فلسفات حديثة.

ويقود الفنان في ذلك وعيه ويتحسس طريقه بقلبه قبل أنامله في عالم الوجوه، سحنة الوجه هي القصة في بدايتها ونهايتها، تعابير بحركات وإيماءات وإضاءات وضربات ملونة من ذاكرة ممتلئة بالحياة، فكل وجه يستطيع أن يخبرك موجزا عن سيرة ما مكتظة بمواقف فيها الفرح والحزن، الآمال والخيبات.

ومحمود جبريل الحاسي هو من مواليد 1962 بنغازي – ليبيا، أقام سبعة معارض فردية في كل من بنغازي وطرابلس بداية من سنة 1987، وكان مكلفا بالإدارة والإشراف على المعارض الفنية التي أقيمت في مدينة بنغازي من 1990 إلى 2007، ولديه العديد من المشاركات في معارض داخل ليبيا وخارجها.

المادة في العمل التجريدي عند محمود الحاسي تتجاوز قيمة المعنى إلى القيمة الجمالية في تزيين الحياة

إنه رسام يعيش مع الوجوه بكل تفاصيل قصصها وإيحاءاتها وما تنضح به من مسرات وأحزان تروي حكايات الماضي وتستشرف ما هو قادم عبر رسم متقن وأنيق، معالجات لا تخلو من الرومانسية الأولى التي سبقت واقعية كوربيه وميليه وفي الكثير من الأحيان في نفس المناطق حيث الانحياز التام للمغلوبين والفقراء وبسطاء الحياة من عمال بحارة وباعة جوالين وصناع أحذية ويحمل مع كل هذه الوجوه انطباعاتنا عنهم ليرسمهم بتصوراتنا.

وينفذ الفنان البورتريهات بإضاءات وضح النهار وبضربات الفرشاة الواثقة والتركيبة العجائبية للألوان الممزوجة بضوء الشمس وروح الفنان في الكثير من أعماله التشخيصية من فن البورتريه.

وتذكرنا تجربة الفنان الحاسي في قدرتها وإنسانيتها بما كان ينتجه الفنان جان فرنسوا ميليه (1814 – 1875) وهو من رواد حركة الفن الواقعي في فرنسا كان مميزا جدا في نقل المشاعر الإنسانية كالحزن برومانسية عالية في تنوع اختياراته لطبقات المجتمع الفرنسي في تلك الأيام رغم ميوله إلى طبقة العمال والبسطاء وحياة الفلاحين والتي تجلت خصوصا في لوحة حاصدات السنابل والقيلولة وغيرها. وكان إنتاج هذا الفنان مرجعا للكثير من الفنانين الكبار من بعده والكثير منهم أعاد صياغة أعماله بطريقته الخاصة كما الحال عند فنسنت فان غوخ عندما رسم استراحة الحصاد والقيلولة والكثير من أعمال ميليه بأنفاسه هو، حيث أن فان غوخ استفاد من الحس الإنساني والاقتراب من الوجدان الجمعي للفقراء في أعمال ميليه.

وكانت واقعية ميليه تلك المنتخبة من البسطاء والمكرسة لأحلامهم وتطلعاتهم، المبادرة الأولى للتركيز على دائرة حياتهم بكل ما فيها من مكابدة وأيضا ما يحيط بها من جمال لم ينتبه إليه من كان قبله.

وهذا أيضا ينطبق على الفنان الحاسي حيث كان يلتقط طريقة المعالجة الدقيقة وما بها من إيحاءات فنية راقية تضيف إلى أعماله ألق ودفئ الإنسانية وقصصها.

وتوزعت أعمال الحاسي على مراحل وفترات زمنية مختلفة وكانت متباينة في أغلبها فبداياته الواقعية التي تقترب من عوالم كبار الواقعيين في أناقتها إلى التصوير الفوتوغرافي لوجوه ليبية وتصوير الميكرو للحياة البرية وصناعة الحالة المكانية بتجريدياته وأعماله التركيبية من بقايا الأخشاب المتهالكة التي صقلها وجودها بين البر والبحر وأثر ملح الأرض عليها وسطوحها المتأكسدة التي كان يلتقطها من بين المهمل ليعيد تدويرها في أعمال فنية جميلة تعكس إحساسنا عن هذه الأشياء.

الفنان يرسم كما كان يفعل الواقعيون الفرنسيون بحرفية عالية وإتقان مذهل يركن إلى التشخيص مجسدا بورتريهات تتكلم عن نفسها ولا تحتاج من يترجم حالها تروي أسطورتها الشخصية بكل آلامها وأفراحها، حركة الوجوه وتناغم الألوان مع الاهتمام بالمناخ الدرامي للعمل بين الفرح والحزن، النور والعتمة على سحنة الوجه وفي خلفيات الأعمال، البدايات والنهايات والنضوج والخفة والصغر والكبر والطفولة والشيخوخة، البلاهة والحكمة في شخصيات الجد، المجاهد، الرجل العادي، البحار، صانع الأحذية، التاجر، الطفل، الشاب في مقتبل العمر والشيخ الكبير، فكلها وجوه كانت تختصر حياة بأسرها.

وجوه من ليبيا
وجوه من ليبيا

ونجح الحاسي في استحضار انطباعنا عن الأشياء، ورسم كل الموجودات بعد أن يقود انطباعنا على هذه الموجودات عبر فهم تشكيلي معاصر في أعماله الفنية بين التشخيص والتجريد في عالم آخر مواز لعالمنا، والأعمال التجريدية من المقاسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة والأحجام الضخمة التي ينفذها على واجهات الفنادق والمؤسسات الكبرى الأخرى. فكانت كل هذه الأعمال تنطق بروح الفنان وتروي قصص الجمال المختلفة بنبرة صوته الخاصة.

فالتشخيص والتجريد من الواقعية مرورا بالانطباعية الفرنسية إلى استحضار مناخات بكر لحياة مضت بكل ما فيها من ألفة للمكان في جغرافيا متخيلة تكون الماضي والحاضر والمستقبل معا.

الفنان الليبي محمود الحاسي رسام يعيش مع الوجوه بكل تفاصيل قصصها وإيحاءاتها وما تنضح به من مسرات وأحزان

وتعدّ تجريديات الحاسي بمثابة الإحساس برائحة الطلاء للأبواب الخشب والجدران، وهو الإحساس نفسه بالوجود والموجودات في لحظات زمنية يريدنا الفنان أن نشعر بها كأنه يشير إليها في صمت فن التكوينات الصريحة التي تبيح عن نفسها وألوانها التي تحيلك إلى زمن آخر وفن صناعة الضوء بتلوين غاية في البراعة والحساسية.

وتتجاوز المادة في العمل التجريدي عند الحاسي قيمة المعنى إلى قيمة مضافة أخرى وهي القيمة الجمالية في تزيين الحياة، فهو يبتعد عن الرخيص من الأعمال الترويجية السياحية ويقترب إلى حد كبير من ذائقة معاصرة تستوعب نظريات ومدارس التجريد الهندسي وتتخذ من المنطقة الوسطى بين التجريد الشرقي الإسلامي الأفريقي وما به من منمنمات شمال أفريقيا ومنتجاتها الفنية وما بين اتجاهات أوروبية كتلك التي أسسها الهولندي موندريان (1872 – 1944).

ويصنع بيئة فنية موازية للأعمال الحرفية التقليدية الليبية الأولى من كليم وسجاد وزخارف الأواني الفخارية والنحاسية والزخارف التي كانت ومازالت تستعمل في فن السجاد الليبي وزخارف البيوت القديمة بوعي فنان مدرك للقيمة الجمالية والسعي لتطويرها ووضعها في مكانها الجديد وهي أعماله الفنية المعاصرة.

السجاد الليبي لوحة مميزة
السجاد الليبي لوحة مميزة

15