لهجتنا التونسية والفن

اللهجة نظام تواصلي لا يختلف عن اللغة، فاللهجة في الاصطلاح العلمي هي “مجموعة من الصفات اللغوية المنتمية إلى بيئة خاصة، يشترك فيها أفراد البيئة الواحدة”.
وكلما تنوعت البيئة، تنوعت اللهجات، لذلك نجد في منطقتنا العربية لهجات عديدة تفرعت عن اللغة الأم وهي اللغة العربية مع اعتمادها مفردات من لغات وثقافات أخرى.
ومن بين هذه اللهجات، اللهجة التونسية، التي تراها بقية شعوب المنطقة وخاصة من يقطنون دول الشرق الأوسط، لهجة صعبة بمفردات مبهمة ومضحكة في أحيان كثيرة. ولا تزال هناك نظرة جماعية للهجة التونسية على أنها لهجة لا تستطيع النجاح في الترويج للفن والثقافة، والتعريف بهما ضمن المحيط العربي، مع بعض الحالات الاستثنائية، وهي أيضا لهجة يراها البعض جافة وخشنة، لا يمكن أن تكون مشحونة بالعواطف والحميمية.
هي لهجتنا في ظاهرها هكذا، لكنها في الحقيقة قابلة للتطويع وفق قدرة المبدع على نظم الكلم، لكنها تسمنا جميعا بصفات متقاربة حتى أننا نستخدم مفردات أكثر من غيرها في حواراتنا اليومية.
ويذهب الفيلسوف الألماني كارل ياسبرس إلى أن “اللغة تجبر الفرد على أن يسلك طريقا واحدا فينتج عن ذلك أن يبدو أفراد المجتمع الواحد وكأنهم يفكرون بالطريقة نفسها”.
ويقول هنري برغسون إن “الألفاظ قبور المعاني” في حين يقول وليم هاملتون “الألفاظ حصون المعاني”.
لهجتنا التي اعتدناها في الحقيقة، هي لهجة جميلة وبإمكاننا أن ننظم منها صورا تعبيرية شعرية
ويذهب أصحاب الرأي القائل بعجز اللغة عن الإحاطة بالأفكار وقصورها عن الوفاء بالتعبير عن المشاعر، إلى تأكيد فكرتهم وتدعيمها بلجوء الإنسان إلى الفنون المختلفة كالموسيقى والرسم لتدارك ما عجزت اللغة عن التعبير عنه. لكن السؤال هنا هو: هل عجزت اللغة أم عجز الناس عن الإحاطة بكنوز اللغة للتعبير عما يشعرون به؟ ونحن هنا إذ نتكلم عن اللغة، نقصد بها أيضا اللهجة، باعتبارها الأكثر استخداما في الحياة اليومية للشعوب ومنها الشعب التونسي.
نبدو في تونس، وخاصة في الجانب الفني والثقافي، عاجزين فعلا عن الإحاطة بكنوز لهجتنا، وهذا ما تؤكده أعمال فنية تخرج علينا من حين إلى آخر، أو ربما هي لهجتنا هكذا، اعتدناها فلم نعد نتقبل تغيرها أو تطويعها خارج سياقها البيئي والاجتماعي والثقافي، كما حصل في “أوبرا كارمن” التي عرضت للمرة الأولى باللهجة التونسية في مهرجان قرطاج الدولي.
لسنا بصدد تحليل العمل الفني، الذي قد نعود له في مقال أشمل، فهو مبادرة جيدة تحسب للأوبرا التونسية التي خاضت المغامرة ونجحت في إثبات أن الأعمال الكلاسيكية والثقافية قادرة على جذب جماهير غفيرة.
كارمن بالتونسي، قوبل بانتقادات حادة، بعضها لم يستسغ الأداء الأوبرالي لحوارات وجمل موسيقية بلهجة تونسية، ورأى فيها قصورا كبيرا وعجزا عن التعبير عن المعاني والمشاعر والأحاسيس. والبعض الآخر عزا الأمر لضعف كتابة النص التونسي الذي كان من الممكن أن يكون بلهجة أجمل وأكثر سلاسة وعمقا.
في المقابل، رأى موسيقيون أن أوبرا كارمن تحفة عالمية يجدر الحفاظ عليها بلغتها الأم، والتفكير في أوبرا تونسية بامتياز من حيث الموضوع والنص والموسيقى والشخصيات وحتى اللهجة.
قد تكون هذه الآراء صائبة نسبيا لكنني هنا أستحضر المثل التونسي القائل “صاحب صنعتك عدوك”. لهجتنا صعبة وغير معبّرة، هذه قاعدة حان الوقت لكسرها ولتشجيع كل المبادرات التي تعمل على التعريف بها، لا أن نهاجم كل راغب في ذلك.
لهجتنا التي اعتدناها في الحقيقة، هي لهجة جميلة وبإمكاننا أن ننظم منها صورا تعبيرية شعرية، يكفي أن نستمع لأحد الشعراء الشعبيين المتمكنين أو حتى شعراء الأغنية التونسية مثل آدم فتحي وعلي الورتاني والبشير عبدالعظيم والجليدي العويني وغيرهم من عشرات الشعراء الذين مروا بتراب هذه الأرض وعاشوا بين ناسها ونظموا من لهجتهم أعمالا فنية خالدة.