لم يبق أمام مصر سوى الصبر الإستراتيجي لتحصيل مكاسب من إثيوبيا

القاهرة – استضافت القاهرة جولة التفاوض الثالثة على المستوى الوزاري بشأن سد النهضة الإثيوبي يومي الاثنين والثلاثاء، بمشاركة ممثلين عن مصر والسودان وإثيوبيا، بحثًا عن اتفاق نهائي ملزم بخصوص ملء السد وتشغيله، وسط تضاؤل فرص الوصول إلى تفاهمات بين الدول الثلاث مع عدم إحراز تقدم في الجولتين السابقتين وضعف التعويل على الجولة الأخيرة في أديس أبابا خلال نوفمبر المقبل.
وطرح جمود أزمة سد النهضة تساؤلات عديدة حول إمكانية إحراز المفاوض المصري مكاسب تضمن الحفاظ على الأمن المائي للدولة، وعقد البعض مقارنات بين طول أمد جولات التفاوض في مسارات مختلفة وتحت رعاية أطراف دولية مع إثيوبيا وبين مفاوضات سابقة خاضتها القاهرة في قضايا أخرى.
وعززت القاهرة تحركاتها الدبلوماسية للضغط على أديس أبابا، وساهمت في بناء سد جوليوس نيريري في تنزانيا للتأكيد على أنها لا ترفض حقّ شعوب القارة الأفريقية في التنمية والاستفادة من الثروات المائية.
ولجأت مصر إلى قوى إقليمية لديها استثمارات ومصالح مباشرة هناك، وانفتحت على حلول قدمتها الولايات المتحدة والبنك الدولي وتجاوبت مع سعي أديس أبابا لأن تكون المباحثات في إطار الاتحاد الأفريقي، ثم قبلت أن يكون التفاوض محدد المدة باتفاق ثنائي جرى بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حين قدم إلى القاهرة لحضور قمة دول جوار السودان في يوليو الماضي.
ودخلت القاهرة المفاوضات الأخيرة وهي تدرك أن التوصّل إلى نتائج إيجابية عملية صعبة، وذكرت وزارة الري المصرية عقب اجتماعات شهدتها أديس أبابا في سبتمبر الماضي أن إثيوبيا تراجعت عن توافق سبق التوصل إليه بين الدول الثلاث ورفضت الأخذ بحلول وسطى.
وقال أستاذ الموارد المائية والري بجامعة القاهرة عباس شراقي إن “مصر اتبعت سياسة الصبر الإستراتيجي، وهناك اقتناع بأنه طالما لم يتأثر المواطن بشكل مباشر جراء تشييد السد وملئه يمكن الاستمرار في هذا المسار إلى حين بلوغ نقطة النهاية التي لم تأت بعد، ويبقى ما دفعته الدولة لتخزين مياه السد العالي وبناء محطات تحلية أقل كلفة من فاتورة استيراد المواد الغذائية من الخارج”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “القاهرة ترفض السير في أي طريق آخر يقود إلى حدوث قطيعة مع أديس أبابا، وتدرك أن نهر النيل سوف يستمر في الجريان والوصول إليها من المنبع، وعليها أن تحافظ على علاقات تعاون مشترك مع إثيوبيا، وتعول على إعادة الثقة بينها وبين أديس أبابا بما يخدم التعاون، شريطة الوصول إلى حد أدنى من الاتفاق في المباحثات التي من المقرر استئنافها في أديس أبابا خلال الثاني عشر من نوفمبر المقبل”.
ولفت إلى أن القاهرة لديها أهداف قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى من المفاوضات الجارية، وتسعى لعدم تكرار ما حدث هذا العام وقت الفيضان الماضي خلال الملء الرابع، إذ استطاعت إثيوبيا تخزين 24 مليار متر مربع من المياه، ما تسبب في عدم تمرير ما يقرب من 45 في المئة من إجمالي حصة مصر من المياه سنويا.
ويتمثل الهدف طويل المدى في عدم منح أديس أبابا فرصة الإقدام على خطوة تتجه فيها لبناء سدود دون التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، والتأكيد على أن القاهرة تستطيع الحصول على حقوقها بالتفاوض وعدم جرها إلى صراع عسكري لا طائل منه.
وشهدت جولة المفاوضات الأخيرة اختلافات حول تفسير نصوص اتفاق المبادئ الموقع في 2015، مع تمسك أديس أبابا بحصة رسمية -على غرار القاهرة والخرطوم- من مياه النهر تحت مسمى “الاستخدام المنصف”.
وأكدت إثيوبيا عقب انتهاء جولة القاهرة أنها “تسعى لإنهاء مفاوضات السد مع ضمان حصة عادلة من مياه النيل”، في إشارة إلى تمسكها بتخصيص حصة متفق عليها، وهي قضية محل رفض من جانب مصر التي تتمسك بالحصول على حصتها كاملة والمقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب سنويّا.
وتختبر أزمة سد النهضة القدرات الدبلوماسية المصرية التي اتخذت شكلا من التصعيد، مع توجيه رسائل إيجابية بشأن التعاون المستقبلي، لكنها لم تؤد إلى تطور يشير إلى أنها تمكنت من إثناء أديس أبابا عن موقفها المتعنت.
ولجأت الخارجية المصرية إلى مجلس الأمن مؤخرا ووجهت خطابًا بعد يوم واحد من إعلان إثيوبيا انتهاءها من الملء الرابع في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وجرى الإفصاح عن مضمون الخطاب بعد جولة المفاوضات التي عقدت في أديس أبابا قبل نهاية الشهر نفسه.
واعتبر الخطاب المصري أن إصرار أديس أبابا على الممارسات الأحادية يمكن أن يشكل تهديدا وجوديا لمصر واستقرارها، ومن ثم يمكن أن يعرّض للخطر السلام والأمن على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وتوقع شراقي في حديثه لـ”العرب” أن تلجأ مصر مرة إلى مجلس الأمن حال فشلت جولات التفاوض المقبلة دون الاتفاق على تمديدها، وأن مصر سوف تُعلم المجلس بما جرى خلال جولات التفاوض الأربع، وسيتم التركيز على فكرة أن هناك خطرا وجوديا يهدد الملايين من المدنيين؛ ففي حال عدم التوصل إلى اتفاق ستكون هناك قنبلة مائية قد يتضرر منها السودان بشكل أكبر إذا تعرض السد لخطر طبيعي.
وتبدو عملية تصعيد أزمة السد على المستوى الدولي أمرا غير مضمون العواقب مع انشغال المجتمع الدولي بالتطورات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط.
وذكرت أستاذة العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية في جامعة القاهرة هبة البشبيشي أن مصر مطالبة بإدخال تعديلات على خططها التفاوضية مع إثيوبيا وعدم الاعتماد على الأهداف نفسها التي كانت تتفاوض عليها مع بدء مراحل التشييد الأولى.
وأكدت في تصريح لـ”العرب” أن “الصبر الإستراتيجي لم يحقق أهدافه الإيجابية حتى الآن، مع توالي إعلان المفاوض المصري عن فشل المباحثات في مرات عديدة. وقد يكون إيجابيا إذا جرى إحراز تقدم. وعدم النجاح في تحقيق خطوات معقولة على الأرض يبرهن على وجود مشكلة في تعدد وتنوع أساليب التفاوض”.
وترى دوائر مصرية أهمية كبيرة في وضع شروط جديدة في التفاوض تسمح بالوصول إلى مخرجات جيدة، وهو أمر مطلوب مع توسيع أطر التشاور بين الخبرات المصرية ووفود التفاوض الوزارية واتخاذ خطوات أكثر فاعلية لتعزيز العلاقات مع دول القارة والتراجع عن أي تصريح عدائي لا يخدم الموقف المصري.