لميا جريج فنانة تبحث عن زمن بيروت المفقود

هناك فنانون تتعذر مسألة تصنيفهم، فهم يمارسون عددا من الأنواع الفنية براحة واستغراق وإتقان وهم حين ينتقلون من نوع فني إلى آخر فإنهم يقومون بذلك بخفة بالرغم من أنهم يدركون جيدا خصوصية كل نوع واختلافه عن الأنواع الأخرى.
اللبنانية لميا جريج هي من ذلك النمط الذي صار وجوده لافتا في عصرنا. ظاهرة صارت توضح مفهومين. الأول هو مفهوم الفنون البصرية الذي ضم الرسم والنحت إلى مجموعة الفنون المعاصرة البعيدة كليا عنهما، والثاني هو مفهوم فن ما بعد الحداثة الذي يوازي بين الممارسة الفنية والتفكير في الفن إذا لم نقل أن فكرة العمل الفني غالبا ما تأخذ ثلاثة أرباع المساحة من العملية الفنية.
كان الفرنسي مارسيل دوشان قد أحدث شرخا في تاريخ الفن التشكيلي أو في ما يتعلق بما كان يُسمى في عصره بالفن الحديث. اخترع دوشان بشكل أساس الفن الجاهز حين أنجز عام 1917 عمله الشهير “النافورة” وهو عبارة عن مبولة رجالية اشتراها من السوق ووقعها على أساس كونها عملا فنيا.
هناك عدد من نسخ تلك المبولة معروضة في مختلف متاحف العالم اليوم. دوشان كان متعدد المواهب والانشغالات الفنية. فإلى جانب كونه رساما ونحاتا كان يصنع الأفلام القصيرة وهي أساس فن الفيديو آرت وكان يمارس فن الأداء الجسدي كما أنه اهتمّ بفن الحدث.
ابنة سلالة متحولة
هي ابنة تلك السلالة الفنية التي صارت تنجز فنها المتغير إلى جانب الفن التقليدي الذي لم يندثر. فهي رسامة ومصورة وكاتبة وصانعة أفلام ومؤرشفة. هي في كل ما تفعل تستجيب لرغبتها في أن تكون في معارضها كل هذه الشخصيات في الوقت نفسه.
غير أن أكثر موضوع اهتمت به جريج وخصصت له الجزء الأكبر من عملها هو الذاكرة. كانت تتذكر لتعيد صياغة ذكرياتها عن طريق ما تقدمه تلك الذكريات من إلهام تخيلي.
ما من فنان عربي معاصر نقب في ماضيه الشخصي مثلما فعلت لميا جريج. وهي عن طريق ذلك التنقيب تعرفت على نفسها وعلى تاريخها العائلي غير أنها في الوقت نفسه قدّمت جزءا من تاريخ بيروت مدينتها. سيكون من الصعب التعرف جيدا على الفنانة جريج من غير رؤية كل أعمالها مرة واحدة. فهي من النوع الذي لا يمكن تجزئته. وذلك ما دفعها إلى أن تعرض في كل معرض تقيمه إنجازاتها من خلال الأنواع الفنية كلها من غير أن تغفل واحدا منها.
جريج من ذلك النمط الذي صار وجوده لافتا في عصرنا. ظاهرة صارت توضح مفهومين. الأول هو مفهوم الفنون البصرية الذي ضم الرسم والنحت إلى مجموعة الفنون المعاصرة البعيدة كليا عنهما والثاني هو مفهوم فن ما بعد الحداثة
ولدت جريج في بيروت عام 1972. ودرست الرسم وصناعة الأفلام في مدرسة جزيرة رود للتصميم بـ”روفيدس” الواقعة في ولاية نيو إنكلاند شمال الولايات المتحدة وتخرجت عام 1995. ومنذ عام 1990 انتشرت أعمالها على نطاق واسع. أسست بالتعاون مع ساندرا داغر مركز بيروت للفن الذي أشتهر عالميا بعد إقامته “المتحف كمحور” في المتحف الجديد بـ”نيويورك” عام 2011. وفي تلك السنة اقتنى متحف تيت مودرن البريطاني أحد أعمالها وصار يعرضه ضمن مجموعته الدائمة.
أقامت أول معرض شخصي لها في بيروت، المركز الثقافي الفرنسي عام 1997 وكان بعنوان “سطوح” لتقيم بعد ذلك أكثر من عشرة معارض شخصية ما بين لبنان وفرنسا ومصر وألمانيا والولايات المتحدة حيث أقامت في جامعة هارفرد معرضا بعنوان “بعد النهر” عام 2017. وبالإضافة إلى اختصاصها الفني فإن جريج هي أيضا كاتبة. صدر لها كتابان. الأول بعنوان “هنا وربما في مكان آخر” الذي صدر عام 2003. أما كتابها الثاني فإنه صدر عام 2004 وحمل عنوان “الوقت والآخر”. وشاركت في عشرات المعارض الجماعية عبر العالم.
راوية الحكايات الجارحة

تستعمل جريج في تنفيذ أعمالها الفنية مختلف التقنيات والمواد وهي مثل فناني ما بعد الحداثة لا تقف عند حدود نوع فني محدد ولا تلتزم بالأطر الجاهزة ولا تهمها الصفة التي تُقدّم من خلالها. فهي كاتبة ومصورة وصانعة أفلام ورسامة وباحثة ومنقبة في الأرشيف الذي يساعدها في أبحاثها، البصري منه بشكل أساس.
من الخارج تبدو مغامرتها مسلية. ذلك لأنها تنطوي على الكثير من الحكي. غير أن من يتابع أعمالها ويتعمق في فهم مضامين تلك الأعمال لا بدّ أن يكتشف أن الفنانة إنما تروي حكايات جارحة وحزينة وعميقة الدلالة. ولأن جريج تهتم بالتاريخ الجماعي فقد شغفت برواية تاريخ المدن والقرى والعوائل من خلال تقنيات مختلفة. وهنا بالضبط يكمن سحر تلك الأعمال وقدرتها على أن تشدّ المتلقي من غير أن يشعر بالملل.
تنجز جريج عملها الفني على هيئة طبقات. طبقة يحتلها الأرشيف بأنواعه وطبقة ثانية تحتلها الكتابة باعتبارها تعليقا على ما تمّ توثيقه وطبقة ثالثة تضم الشهادات الحية. أما الطبقة الأخيرة فإنها تحوي المادة الصورية التي تنجزتها الفنانة عبر تنقلها بين الطبقات الثلاث. “بيروت – تشريح مدينة” هو واحد من أهم أعمالها. نفذته جريج بتقنية “الفيديو آرت”. بيروت التاريخ والجغرافيا تصبح عبارة عن قصة مصورة، ليست صورتها الخارجية مهمة في التعرف عليها. ذلك العمل أنتجه متحف سان فرانسيسكو.
باحثة في السجلات
وإن كانت جريج قد ظهرت بعد الحرب الأهلية فإنها لا تجد معنى لوجودها من غير النبش في وقائع تلك المرحلة الغامضة التي اقتتل فيها اللبنانيون، وفي ذهن كل طرف منهم صورة للبنان مختلف. “سجلات لأزمنة ملتبسة” هو عنوان معرضها الذي أقامته عام 2013 في بيروت. ذلك المعرض هو محاولة لتقديم الماضي والمستقبل على طبق واحد وهو أيضا محاولة للبحث عن الزمن المفقود.
“هل كنا نخسر جزءا من ذاكرتنا الجمعية في كل لحظة حرب؟”، ذلك سؤال ستتمسك به جريج من غير أن تجد له جوابا. لا في الماضي ولا في المستقبل. كلاهما غائمان وما من أحد يقبل أن يكون واضحا وصريحا أمام شفافية التاريخ. هل قال أحد من اللبنانيين “لقد أخطأنا”؟ جريج تقول “إن الجميع قد أخطأ” ولكنه الخطأ الذي لا يصنع تاريخا.
هناك أمر مفقود في المعادلة. قد يكون رقما أو كلمة أو إشارة غامضة. لا تزال بيروت التي تلاحقها الفنانة بـ”الكاميرا الخفية” تقيم في أزمنة رمادية ملتبسة. حُرمت المدينة التي تعرضت للخراب من تسمية المخربين بأسمائهم. حين أعفي الجميع من الذنب لم يعد هناك قاتل، أما القتيل فإنه لا يزال مقيما في لحظة القتل. بالنسبة إلى جريج فإن تلك اللحظة هي لحظتها التاريخية. ليس لأنها تتعلق بالفقد والخسران، ولا لأنها تكتسب قيمتها من خلال يقظة الحق المغتصب بل لأن كل ذلك صار جزءا من الأرشيف. أرشيف شعب صار التعرف عليه والتعريف به لا يتمّان إلا عن طريق الذاكرة باعتباره تراثا شعبيا.
ذاكرتها هي ذاكرة مدينة
وإذا ما كانت جريج تقاتل عن طريق الذاكرة فإنها لا تودّ أن تقدم مرثيات لمدينة كان اسمها بيروت بل لأنها تؤمن بأن ذاكرة مدينة حية مثل بيروت لا تتضمن الماضي وحده بل المستقبل أيضا.
جريج تقدّم بيروت باعتبارها مدينة ترى مستقبلها. هي تعرف بيروت، مدينتها. وهي تعرف أن تلك المدينة إنما تقيم على طبقات من الحروب وتعرف أن اللبنانيين يقيمون مواطنتهم على أمل كان ولا يزال مفقودا، غير أنها تشعر أن لبنانها النقيّ والنزيه لا يزال يقف في انتظارها في واحدة من لفتات التاريخ.