لماذا فشلنا في إدارة حربنا الإعلامية.. ونجحوا؟

منذ عام 1942 العام الذي أنتج فيه فيلم “ليالي عربية” لم تتوقف أستوديوهات هوليوود عن ترويج صورة مشوهة للإنسان العربي.
في الحقيقة يمكن أن نتتبع بدايات هذا التوجه حتى قبل هوليوود في أعمال فنية أنتجت في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، وظهرت بأعمال فنانين رومانسيين، وفي ما بعد في تجارب فنانين مستشرقين.
بالأمس، استوقفتني مقاطع من فيلم “دون توقف” (Non-stop) يلعب فيه دور البطولة المثل الأيرلندي ليام نيسون. ما لفت انتباهي بفيلم الحركة والإثارة الذي يتحدث عن محاولة خطف وتفجير طائرة في رحلة بين نيويورك ولندن، هو شخصية عمر متولي (ممثل أميركي والده مصري ووالدته هولندية)، يظهر عمر في لقطات محدودة يؤدي دور طبيب مسلم ملتح. كان مظهره كافيا ليحكم عليه ركاب الطائرة حكما مسبقا ويتعاملون معه بحذر وخوف.
ظهر متولي في ثلاثة أو أربعة مشاهد قصيرة، لا يتجاوز المشهد الواحد منها بضع ثوان، أدت الدور المطلوب منها في الربط بين الإسلام والإرهاب، وهي طريقة أكثر فاعلية من الأفلام التي تكون فيها القصة مركزة بشكل كامل على الإساءة للعرب والمسلمين. كما في فيلم “12 ساعة في ميونخ”، وفيلم “يوم الأحد الدامي”، وأفلام أخرى عديدة أنتجتها هوليوود، اعتمدت على مواد وثائقية.
◙ الاختراعات الكبرى التي غيرت العالم لم تتم في أبنية حكومية محصنة بل في غرف النوم وفي مرائب سيارات لأفراد اقترضوا مبلغا بسيطا من المال للشروع بتحقيق حلمهم
وسواء جرى تحريف الأحداث في هذه الأفلام أو عرضت دون تحريف، تبقى خطورتها أقل من أفلام “دس السم بالعسل”، التي تعتمد أساليب غير مباشرة لتثبيت الصورة النمطية عن العرب والمسلمين وتقديمهم كشخصيات عدائية ومتطرفة ومتعطشة للعنف والإرهاب والقتل، وربطهم بالمنظمات والحركات الإرهابية مثل القاعدة وداعش، أو شخصيات متخلفة همجية ومتحجرة ومعادية للحضارة والتقدم والحرية والديمقراطية. أو قد يتم اللجوء إلى استخدام طرق أكثر ذكاء، تبدو من الخارج متعاطفة بينما هي في جوهرها تقصد الإساءة.
وسواء ساهمنا في إنتاج هذه الصورة المشوهة أو لم نساهم، إلا أننا نتحمل المسؤولية، فنحن غالبا من قدم ومازلنا نقدم مادة خاما تنسج عليها الأكاذيب والمبالغات.
الخطأ الأكبر أننا تجاهلنا قيمة السينما كسلاح إعلامي وثقافي وتربوي، وتعاملنا معها كأداة ترفيه ومتعة. وحتى عندما كان الترفيه على حساب قضايانا، لم نجد أي حرج في الضحك على أنفسنا.
فعلت هوليوود ما لم تفعله وسائل الإعلام المكتوب والمسموع، وخسرنا خلال مئة عام الحرب الإعلامية، فهل نخسرها ثانية في مواجهة مواقع التواصل الاجتماعي؟
كل الدلائل تؤكد أننا نسير في طريق الهزيمة مرة أخرى، وأول هذه الدلائل إعلان إكس عزمها محاصرة المحتوى الداعم للفلسطينيين تحت تهديد شركات كبرى بسحب إعلاناتها من المنصة، وتوجيه تهم لمالكها إيلون ماسك بمعاداة السامية.
وفي خطوة ذات دلالة سرعان ما توجه ماسك إلى إسرائيل لإجراء محادثات في القدس مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ حول مكافحة معاداة السامية عبر الإنترنت.
أولى النتائج التي أعلن عنها من اجتماع ماسك مع مسؤولين في إسرائيل هي إعلان وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كرعي عن اتفاق مبدئي مع ماسك بوصفه رئيس شركة “ستارلينك” يقضي بعدم حصول قطاع غزة على الإنترنت الفضائي إلا بموافقة تل أبيب.
قد تكون الخطوة التي اتخذها إيلون ماسك مبررة في الظرف الحالي، على الأقل بالنسبة إلى الدول الغربية المتعاطفة مع الجانب الإسرائيلي. ولكنها خطوة تشير إلى خطوات قد تتخذ مستقبلا، خاصة إذا لم تنجح الدول العربية في إدارة حربها الإعلامية وتسويق وجهة نظرها في الأحداث.
◙ مازالت هناك فسحة أمل أمام الدول العربية لكسب المعركة الإعلامية، ما يجب عمله هو أن تنسحب الحكومات إلى الصف الثاني، وتفسح المجال للأفراد للوقوف في الصف الأول
وهذا لن يحدث إلا إذا أعدنا التفكير بالمرحلة التي سبقت عصر الإنترنت، وحددنا بوضوح الأسباب التي أدت إلى خسارتنا المعركة الإعلامية.
أول الأخطاء التي تولدت عنها أخطاء أخرى عديدة، أننا أوكلنا مسؤولية الإعلام لمؤسسات حكومية تديرها وترعاها انحصر همها في كيفية حماية سلطاتها، وكانت تحيط مباني الإذاعة بحماية لا تلقاها حتى وزارتا الدفاع والداخلية.
والمضحك والمؤلم في نفس الوقت أن هذه العادة استمرت إلى يومنا هذا، وكأن هذه الحكومات لا تعرف أن بإمكان أي شخص أن ينشئ إذاعته الخاصة حتى من داخل كوخ طيني.
أذكر في سوريا، قبل الثورة الرقمية، أن الحصول على آلة كاتبة (آلة رقن) كان يحتاج إلى موافقة أمنية من عدة جهات، وكان امتلاكها دون هذه الموافقة يرمي بصاحبها في السجن بتهمة المساس بأمن الدولة والتحريض على زعزعة نظام الحكم.
سوريا لم تكن استثناء، بل القاعدة التي سارت عليها معظم الدول العربية التي نالت استقلالها، وأوكلت مهمة تسيير البلاد إلى حكومة (أم) ترعاها وتفكر بالنيابة عنها، أما مهمة الشعوب فانحصرت بالولاء والطاعة.
خسرنا المعركة قبل الإنترنت لأننا قتلنا المبادرة الفردية، وسلمنا مصائرنا لحكومات أقنعتنا أنها تعرف ما يفيدنا وما يضرنا، وأصبح التحدث بصيغة الفرد تهمة تستوجب العقاب.
وللأسف، كانت الطبقة التي توصف بالمثقفة أول من بلع الطعم، وسبح بحمد الحكومات، واستنكر قيمة الفرد. وذلك على عكس ما كان يحدث في الدول الغربية، التي اعتبرت المبادرة الفردية جوهر التطور والتنمية. بينما انحصر دور الحكومات فيها على تطبيق القانون وخلق البيئة الصالحة لنمو المهارات الفردية.
استطاعت الحكومات العربية أن تفرض سلطتها على مواطنيها وبالتالي على الإعلام لأنها وضعت يدها على مصادر الثروة. وعلى العكس من ذلك الأفراد في الغرب هم من صنعوا الثروات وامتلكوها.
◙ الخطأ الأكبر أننا تجاهلنا قيمة السينما كسلاح إعلامي وثقافي وتربوي، وتعاملنا معها كأداة ترفيه ومتعة. وحتى عندما كان الترفيه على حساب قضايانا، لم نجد أي حرج في الضحك على أنفسنا
عقلية الجماعة وتقديس الحكام هما اللذان أديا في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي والدول التي تدور في فلكه، بعد أن خسر معركته الإعلامية التي كان الكرملين يديرها بقبضة من حديد.
معركة أميركا اليوم مع الصين معركة إعلامية لن يصعب التنبؤ بنتائجها إن استمرت قبضة بكين الحديدية ممسكة بالإعلام.
من ابتكر الكمبيوتر والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي.. هم الأفراد وليست الحكومات.
بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام سينسى الناس دونالد ترامب وجو بايدن، كما نسوا بوش وكلينتون وكينيدي، وستبقى أسماء مارك زوكربيرغ وسام ألتمان وإيلون ماسك تتردد.
الاختراعات الكبرى التي غيرت العالم لم تتم في أبنية حكومية محصنة بل في غرف النوم وفي مرائب سيارات لأفراد اقترضوا مبلغا بسيطا من المال للشروع بتحقيق حلمهم.
مازالت هناك فسحة أمل أمام الدول العربية لكسب المعركة الإعلامية، ما يجب عمله هو أن تنسحب الحكومات إلى الصف الثاني، وتفسح المجال للأفراد للوقوف في الصف الأول.