لماذا تغيب الرواية الخليجية للسيرة الهلالية

فتحي عبدالسميع: السيرة الهلالية لها أصل وثني.
الأربعاء 2024/07/31
السيرة الهلالية تراث خفي (لوحة للفنان حسن الشرق)

انتشرت السيرة الهلالية في مناطق كثيرة من مصر إلى المغرب العربي وحفلت بإضافات وزيادات جعلت منها سيرة ملحمية، في كل مكان مر منه الهلاليون هناك سيرهم، لكن الغريب أن هذه السير تغيب في المناطق التي انطلقوا منها، بينما يكفي تفكيك بعض ملامح هذه السيرة لنكتشف أنها سير مختلفة ولها أصول قديمة غير إسلامية.

يؤصل الشاعر المصري فتحي عبدالسميع في كتابه الجديد “التراث الخفي الأسطورة السومرية والرواية الخليجية للسيرة الهلالية”، رؤيته التي انطلقت في كتابه “وجوه شهريار: الحكاء والحكاء الآخر”، هذه الرؤية التي تقوم على فكرة التراث الخفي، أو التراث الذي ينتقل من جماعة قديمة إلى جماعة أخرى تؤمن بدين مختلف تماما ومع ذلك ينجح التراث القديم في البيئة المعادية له.

يفتتح الشاعر عبدالسميع كتابه، الصادر عن دار وعد، بسؤال يشكل محور فكرته واشتغاله بحثا وتحليلا، يتساءل: أين أحجار المعبد المهدم؟ ويرى إجابة على ذلك أنه “لا يبدأ التراث غالبا من لا شيء، وكثيرا ما يكون كحجارة المعبد التي تم نقلها لبناء معبد آخر يخص ديانة أخرى، وتبقى الحجارة القديمة محملة بمدونات أو رموز يتم طمسها بملاط جديد وكتابة مدونات أخرى عليها، وهكذا تصبح تراثا خفيا، يواجه صعوبات كثيرة كي يظهر، مثل تحريره من الملاط الجديد بما عليه من مدونات، ثم إعادة تجميع الحجارة من جديد، لأنها تفرقت وقت الهدم والنقل وإعادة البناء، وكثيرا ما تهلك بعض الحجارة وتصبح ترابا أثناء تلك العمليات، ومن ثم تُعد عملية إعادة تجميع تلك الحجارة غاية في الصعوبة”.

يقول “يثيرني البحث الذي يتطلب مغامرة، أو يمشي في طرق جديدة ومظلمة، ربما لأنني دخلت مجال البحث بعد عمر في كتابة الشعر، وتعجبني في البحث متعة البحث وجدواه الثقافية، ونجاحه في تقديم أسئلة جديدة، وفي هذا البحث وغيره، لا أفتخر بأي إجابة، وأعتبر كل تحليلاتي مجرد أسئلة تأخذ شكل التحليلات، وهدفي الأساسي من هذه المغامرة هو الدعوة إلى التفكير في التراث ومراجعته، والأسئلة الجديدة هي أفضل محرض في تقديري لتلك المراجعة”.

التراث الخفي

التراث الخفي هو التراث الذي يسري في طيات التراث الأحدث
التراث الخفي هو التراث الذي يسري في طيات التراث الأحدث

في مقدمته توضيحا لفكرته يستدعي عبدالسميع واحدة من أشهر الحكايات الإنسانية المقدسة، ويرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الكتابة، وهي حكاية إنانا ودوموزي (تساوي تموز وسوف استخدم اسم تموز بسبب شهرته وسهولته) التي ثبتت أقدامها في ثقافة العراق القديم، لكنها تعرضت للكثير من محاولات الطمس، بسبب التغيرات السياسية والدينية في بلاد الرافدين، وصولا إلى طمسها تماما مع انتهاء حضارة العراق القديم، ثم عودتها إلى الظهور بفضل علم الآثار الحديث، ودخولها الثقافة العربية بقوة من خلال حركة شعرية كبيرة ظهرت في القرن العشرين وهي حركة الشعراء التموزيين.

إن حكاية إنانا تعتبر “من أقدم قصص الحب في التاريخ، ولم يكن تموز وإنانا وجهين مثاليين ونموذجين سماويين لنساء سومر ورجالها، فحسب، بل كانا أيضا رمزين إلهيين للعملية الجسدية التي تهب السعادة والمتعة، وكان سكان سومر يتوجهون بالدعاء إلى إنانا بوصفها الإلهة التي تفتح أرحام النساء”.

وفي استشهاده بهذه الحكاية “إنانا ودوموزي” السومرية، تساءل كيف أمكنها ـ الحكاية ـ الاستمرار والتعايش مع اليهودية، ثم صارت بعض نصوصها جزءا من الكتاب المقدس، كما هو الحال في نشيد الإنشاد، ثم كيف تعايشت مع الديانة المسيحية، وكيف واصلت حياتها السرية في تصورات الكثير من المسلمين عن الحسين رضي الله عنه، الذي تتشابه احتفالاته مع احتفالات تموز.

ويرى أن التراث الخفي هو التراث الذي يسري في طيات التراث الأحدث دون أن يترك علامات تجعلنا نتعرف عليه بسهولة، بل يذوب ذوبانا شديدا في التراث الأحدث، ولا يمكننا رصده أو اكتشافه بسهولة، وقد لا نكتشفه. التراث الخفي يشبه الحائط الذي قمنا بطلائه أكثر من مرة، ويعيش بيننا بوصفه حائطا جديدا، لأن الطلاء الأول توارى تماما تحت الطلاء الجديد. إن التراث الخفي يحتاج إلى رصد طويل، وقراءات تتجاوز الأسطح، وتبحث عن الأعماق الدفينة، مع التسلح بوعي يهتم بالرموز ويقدرها، ويلتقط الإيحاءات والتلميحات الخاطفة، ويسهر على النصوص الأحدث تنقيبا عن كل ما يوحي بالتراث الخفي.

ويشير إلى أن قراءاته التحليلية في الكتاب انطلقت من رصد غياب السيرة الهلالية في الخليج، رغم أن أحداثها بدأت في بلاد العرب، وقد بدأت مسيرة أبناء نجد نحو تونس الخضراء بالمرور على الممالك الخليجية القريبة من نجد، وجرت بينهما وقائع، وأخذت معها ملك العراق عامر الخفاجي الذي تخلى عن السلطة في العراق ورحل مع الهلالية، وحارب في صفوفهم حتى قتله الزناتي خليفة بالغدر والخيانة.

ويتساءل: كيف تنتشر السيرة الهلالية في بلاد كثيرة من المشرق إلى المغرب، وتصل جنوبا إلى نيجيريا، لكنها تختفي في مكان ظهورها؟ ويقول “ظهر السؤال منذ فترة طويلة، وألح عليّ عندما قرأت إحدى الحكايات الشعبية الخليجية غير المنسوبة للسيرة الهلالية، وشعرت بوجود تراث الهلالية وهو يتخفى في ثنايا تلك الحكاية، وبدأت في اقتفاء أثره، ورصد تلميحاته وإشاراته. هكذا افترضت وجود رواية خليجية للهلالية، لكنها اختفت ولم تدون، ودهسها النسيان مع رحيل الأفراد الذين كانوا يحفظونها، وغياب المناخ الذي ينتج الراوي المحترف، لكنها قبل أن تختفي وتفتت في حكايات شعبية صغيرة”.

ويلفت عبدالسميع إلى أن العثور على الرواية الخليجية المفقودة للسيرة الهلالية يمكن أن يمر في طريقين، الأول أثري يتمثل في اكتشاف مخطوط يحتوي علي الرواية، والآخر فني يتمثل في البحث عن السيرة في الحكايات الشعبية التي كانت جزءا من الهلالية وتفتتت وتناثرت، لكنها احتفظت بصلاتها الظاهرة أو الخفية بالسيرة الشعبية الألم. هكذا قام بمقارنة حكاية خليجية هي حكاية “العقيلي واليازية” بحكاية من حكايات السيرة الهلالية، وهي حكاية “أبي زيد وعالية بنت جابر”، ووقف على العناصر المتشابهة بين الحكايتين ولم يستطع رد التشابه إلى المشترك الإنساني، بسبب وجود كلمة “أولاد هلال” التي ترد في نهاية الحكاية الخليجية.

التراث الخفي ينتقل من جماعة قديمة إلى جماعة أخرى تؤمن بدين مختلف تماما ومع ذلك ينجح في البيئة المعادية له

 لقد رصد أن كثرة العناصر المتشابهة تؤكد انتماء الحكايتين إلى جسد واحد، وتؤكد وجود رواية خليجية مفقودة للسيرة الهلالية، لكنها لم تُفقد بشكل كلي، بل تفتّتت وتناثرت في حكايات صغيرة يمكن الاحتفاظ ببعضها في ذاكرة بعض الناس في ظل غياب الراوي المحترف الذي يحفظ السيرة كاملة، كما هو الحال مع الرواية المصرية للسيرة.

الحكايات الصغيرة التي تناثرت من السيرة الهلالية تأثرت بالحداثة التي دخلت عالم الخليج بقوة، وغيرت مظاهر الحياة تغييرا كبيرا. وقد أفلت بعضها من حركة الجمع والتدوين، بينما تم توثيق حكايات يصعب اكتشاف علاقتها بالسيرة إلا من خلال دراسة فنية عميقة، تتجاوز المقارنة السطحية إلى مقارنة رمزية فعالة تستطيع الإمساك بالخيط الباطني الذي يوحد بين حكايات الهلالية، مهما تَقنّع بعضها بعلامات تبعدها ظاهريا عن الأم، والأعرف هل فات أوان الجمع الميداني أم لا، لكنني أتمنى توالي الجهود لفحص كل الحكايات الشعبية التي تم توثيقها، وإعادة النظر فيها في إطار البحث عن رواية خليجية مفقودة للسيرة الهلالية.

ويؤكد أن الوصول إلى الرواية الخليجية لا يعد أمرا ثانويا، بل هو غاية في الأهمية، لأن حقيقة الهلالية لا تظهر إلا من خلال جميع رواياتها، لأن الهلالية تتفاعل مع المكان الذي تعيش فيه وتتأثر ببيئته وتطلعات سكانه وأشواقِهم، وكل رواية جديدة تقدم لنا إضافة جديدة، وقد وضح في الكتاب كيف أضافت الحكاية الشعبية الخليجية للسيرة الهلالية، مثلها مثل الروايات التي تم جمعها من فلسطين وتشابهت فيها صورة الهلالي مع صورة الفدائي، أو الروايات التي تم جمعها من الأردن وتشابهت فيها ملامح الهلالي بملامح الفلاح الأردني الذي يعاني من هجمات العربان، أو الروايات الليبية التي تداخلت فيها صورة الهلالي مع صورة عمر المختار. وأهم إضافة هي لفت نظره إلى أهمية تحرير السيرة من قبيلة بني هلال، وتأكيد ما كان يدور في أعماقه من أن الهلالية سيرة إنسانية في المقام الأول.

الأصل الوثني

اا

يشير عبدالسميع إلى أنه أثناء الكتابة عن الأسطورة السومرية أخذت تظهر في ذهنه إشارات تربط الأسطورةَ بالسيرة، فقام بإعادة قراءة السيرة في ضوء تلك الإشارات، وراحت الحصيلة تكبر مع الرصد والتأمل، ووجد نفسه يبحث في السيرة ككل عن التراث السومري الكامن فيها. إن البحث عادة يبدأ بفرضية مسبقة، ويهدف إلى إثباتها أو نفيها، لكنه عثر أثناء البحث على فرضية ثانية غير التي بدأ منها، وتلك الفرضية الثانية غاية في الأهمية، لأنها قادته إلى اكتشاف ذوبان الأسطورة في السيرة، الأمر الذي يعني وجود أصل وثني للسيرة الهلالية التي تكاد أن تكون كتابا إسلاميا، وأن المبدع الأصلي للسيرة الهلالية قد لا يكون عربيا أو مسلما.

 وظهرت تلك الفرضية من خلال التحليل الفني للشخصيات الأنثوية في الحكايتين السالف ذكرهما فقط، وهما “اليازية” و”عالية” و”سهوة”، حيث تبين أثناء الفحص أن تصرفات الأنثى لا تنتمي إلى الثقافة العربية قبل الإسلام، ولا تنتمي إلى ثقافة صدر الإسلام، أو إلى الثقافة الإسلامية قبل أن تتداخل مع الثقافات القديمة مثل ثقافة العراق وفارس ومصر وغيرها من ثقافات الشعوب التي أسلمت وفي أعماقها منطقة وثنية قديمة لا يمكن تجاوزها بمجرد الدخول في الإسلام.

ويرى أن صورة المرأة في الهلالية تنتمي إلى صورة المرأة في عقائد الخصب القديمة، أو عقائد الإلهة الأنثى التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم واستمرت على مدار قرون طويلة ونحتت لها مكانة في الوجدان الشعبي لسكان المنطقة يصعب القضاء عليها

بسهولة. لقد كانت الألهة السومرية “إنانا” في قلب مبدع الهلالية ووجدانه الأول أو الأساسي، وقام بوضع حكاية “إنانا ودموزي” في السيرة بمهارة فائقة، لا يمكن أن تأتي عفو الخاطر، لأن تسكين الربة الوثنية في الثقافة الإسلامية بشكل خفي ليس سهلا، بل يحتاج إلى قدرات خاصة تتحايل على التصادم مع الثقافة الإسلامية المنتصرة، وتفترض نحت الربة الوثنية بحيث تنطلي صورتها على أعدائها، مع التفريط في السمات التي تؤدي إلى تصادم واضح مع الثقافة الإسلامية، ولا شك أن هذا الوجود الأسطوري الخفي في السيرة، كان سببا من أسباب تفاعل الطبقات الوجدانية العميقة، وسرا غامضا من أسرار تعلق الجماعة الشعبية بالهلالية.

هناك أصل وثني للسيرة الهلالية التي تكاد أن تكون كتابا إسلاميا بينما مبدعها الأصلي قد لا يكون عربيا أو مسلما

ويضيف عبدالسميع “يعتبر عامر الخفاجي، ملك العراق، لغزا من ألغاز السيرة الهلالية، لأنه ترك بلاده الخصبة العامرة بالخيرات، وسلطانه الكبير، وقرر الذهاب بلا مبرر معقول مع بني هلال إلى تونس، وهناك قاتل الزناتي خليفة حتى لقي مصرعه ودفِن في تونس. تفسر بعض الروايات تلك الخطوة بمجاملة صديقه أبي زيد الهلالي، وتفسرها إحدى الروايات بعشقه الشديد للنساء بشكل عام، وعشقه لـ’وطفة’ بنت دياب بن غانم بشكل خاص”.

ويذهب إلى أن السبب خفي غير معلن لأنه يتعلق بالإله تموز، والصعوبة التي تعترض مبدع السيرة العظيم وهو يكرس لوجود الإله الوثني في ثقافة المسلمين الشعبية. أي إن الخفاء يتعلق بالبطل من ناحية، ومبدع الهلالية من الناحية الأخرى وهو يقوم بوضع الأسطورة السومرية في طيات السيرة الهلالية على نحو يصعب معه الوصول إلى الأسطورة، ولعله كان يعتقد في استحالة الوصول إليها.

ويذهب عبدالسميع إلى أن مبدع السيرة الهلالية الأصلي مبدع كبير جدا، وقد لا يكون عربيا أو مسِلما، ويقول “الأصلي”، “لأن السيرة الهلالية كانت تنمو وتكبر مع الرواة الذين لا ينقلونها نقلا حرفيا، بل يعيدون صياغتها وفق مواهبهم وطبيعِة تفاعل الجمهور معهم، الأمر الذي جعل الزيادات تتراكم حول النص الأصلي”.

، الزيادات التي أبدعها شعراء ينتمون إلى الثقافة الإسلامية، وكأننا أمام هيكل عظمي وثني كسوناه لحما إسلاميا. وهكذا تركت الملامح الخارجية، تركت الجلد واللحم ورحت أبحث عن تلك العظام غير المنظورة. أقول المبدع الأصلي للسيرة الهلالية في نواتها الأولى لم يكن مسلما، ولا أقر حقيقة بذلك، بل أطرح سؤالا جديدا غير متوقع وصادم ‘هل ينتمي المبدع الأصلي للسيرة الهلالية إلى ثقافة أخرى غير إسلامية؟’”.

ويؤكد أن “وجود التراث السومري بشكل خفي في السيرة يجعلنا نفكر في مبدعها خارج الثقافة الإسلامية، لكنه لا يكفي للقول بوثنيته، أو اعتماده على الأسطورة لسبب ديني بحت، لأن الأسطورة نفسها نجدها عند شاعر مثل بدر السياب، خاصة في قصيدته ‘أنشودة المطر’، ولا نستطيع الاقتراب من هويته الدينية أو العربية، لكن هل يتطابق سلوك السياب مع سلوك مبدع الهلالية الأول الذي رسم خطوطها العريضة، وشيد هيكلها العظمي، تاركا الباب مفتوحا لوضع اللحم والجلد والملامح الخارجية لكل بيئة تحتضن الهلالية، لتصنع روايتها الخاصة التي تشبِه الرواياِت الأخرى، وتتميز عنها في الوقت نفسه؟ إن هذا الكتاب لا يقدم إجابات بقدر ما يقدم أسئلة جديدة، ويفتح أفقا لدراسة الهلالية في ضوء فرضية الأصل الوثني”.

12