لماذا استعمل النازيون كلمة "مسلم" مخاطبين اليهود في المعسكرات

رغم التقدم الكبير الذي عرفته المجتمعات البشرية، فإن ذلك لم يمنع من وقوع مجازر لا تصدق أحيانا، مورست فيها فظاعات وما زالت تمارس إلى الآن مثل ما يحدث لسكان غزة من إبادة على مرأى ومسمع من العالم. ولعل التذكير بالإبادة التي ارتكبت سابقا ضروري اليوم في محاولة لإيقاف الجريمة، ومن هنا تأتي أهمية كتاب “ما إذا كان هذا إنسانا.”
يكشف النص التمهيدي لكتاب الشاعر والروائي اليهودي الإيطالي بريمو ليفي “ما إذا كان هذا إنسانا” حجم الفاجعة التي يحملها الكتاب، حيث يبدأ بالتشكيك في القارئ وضميره، داعيا له إلى الانتباه والحكم على ما هو على وشك أن يقال، قالبا أجواء الهدوء والأمن التي أثارتها السطور الأولى، لينشئ تناقضا حادا حيث الرجال المحرومون من كل الخصائص البشرية، والأكثر تجردا من الإنسانية، والنساء اللواتي بلا شعر ولا اسم ولا ذاكرة ولا حتى شعور أمومي. خاتما بوجوب تذكر ما كان حدث في معسكرات الاعتقال النازية ونقله إلى الأجيال القادمة، حتى لا يتكرر الخطأ والرعب.
الكتاب، الذي صدر عن “منشورات المتوسط – إيطاليا”، بترجمة الكاتب العراقي كاصد محمد أستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة بولونيا الإيطالية، ما هو إلا مذكرات بريمو ليفي؛ أحد أبرز كتاب العالم وأشهر الكتاب الإيطاليين، وهو كيميائي وكاتب يهودي إيطالي، يروي شهادته وتجربته الشخصية كمعتقل في معسكر أوشفيتز خلال الحرب العالمية الثانية. وتأتي ترجمته في وقتها حيث يمارس الإسرائيليون على الفلسطينيين حربا وحشية في غزة وكامل الأراضي الفلسطينية، ويمارسون ما كانت النازية تمارسه عليهم في المعتقلات من وحشية في التعذيب والانتهاك والقتل.
شهادة مؤلمة
يروي ليفي قصة القبض عليه من قبل الفاشيين في 13 ديسمبر 1943 ونقله إلى أحد معسكرات الاعتقال، حيث قيل له إنه سيتم ترحيله مع المعتقلين اليهود الآخرين إلى وجهة مجهولة. يغادرون في قطار ويواجهون رحلة عذاب تستغرق 15 يوما. وعند الوصول إلى محطة المقصد يتم تقسيمهم إلى مجموعتين: القادرون على العمل وأولئك الذين لا يصلحون للعمل. من المفترض أن يتم قتل غير الصالحين للعمل على الفور. ويتم نقل الآخرين إلى معسكر اعتقال أوشفيتز، حيث قرأوا فوق بوابة المدخل الكلمات “العمل يجعلك حرا.”
في المعسكر، يتم حلق رؤوس المعتقلين وغسلهم وإجبارهم على ارتداء الزي الرسمي المخطط للسجناء ورسم وشم بأرقامهم، ومن هنا تبدأ عملية تبدد الشخصية. قيل لهم إنهم في معسكر عمل. يشعر الراوي بأن كل شيء يتم بغرض السخرية منهم وأن مصيرهم محتوم منذ البداية وهو القتل.
يروي الفصل الأخير من الكتاب دخول ليفي إلى المستشفى مصابا بالحمى القرمزية، مما أنقذه من القتل الجماعي للسجناء الذي نفذه الألمان عندما وجدوا أنفسهم محاصرين بالقوات الروسية. ويختم بهروب الألمان ووصول القوات الروسية التي حررته وحررت من بقي من المعتقلين.
إن ليفي يقدم في هذا الكتاب شهادة مؤلمة على الفظائع التي ارتكبت في معسكرات الإبادة النازية، والظروف القاسية التي عاشها المعتقلون في المعسكر، بما في ذلك التعذيب والجوع والبرد والإذلال المستمر، ويهدف إلى تقديم وثائق، تفيد في إنجاز دراسة متزنة لبعض ملامح النفس الإنسانية. وقد حظي بشهرة واسعة لقدرته على الجمع بين الملاحظة الدقيقة والبصيرة الفلسفية مع الأناقة الشعرية والخيال، مما يجعله تحذيرا للأجيال القادمة من سقوط البشرية.
نشر الكتاب لأول مرة عام 1947، وفضلا عن الجرائم اللاإنسانية التي ارتكبت في معسكرات النازية ضد اليهود وغيرهم. يتطرق الكتاب، أيضا، إلى موضوعات مثل اللغة المستخدمة في المعسكرات، والعجز اللغوي في التعبير عن المعاناة، واستخدام كلمة “مسلم” للإشارة إلى المعتقلين الذين كانوا في المرحلة الأخيرة من حياتهم. ومحاولة التضامن بين السجناء، والبقاء على قيد الحياة، والتآكل الجسدي والنفسي، وأخيرا السؤال الأبدي حول معنى وأسباب الهولوكوست.
يصف الروائي إيتالو كالفينو الكتاب قائلا: “ليست شهادة مؤثرة للغاية فقط، بل هو كتاب عظيم، ينطوي على صفحات ذات قوة سردية أصيلة.” أما فيلب روث فيصف الكتاب بأنه “واحدة من أعظم الشهادات الإنسانية في هذا العصر.”
في توطئته للكتاب يلفت المترجم كاصد محمد إلى أن ضرورة هذه التوطئة تأتي من الحاجة إلى إيضاح بعض النقاط في هذا الكتاب، وما ترتبت عليها من خيارات في الترجمة. وفي المقام الأول يشير إلى عدم التناسق في استخدام الأزمنة، إذ عادة ما يعمد الكاتب إلى استخدام صيغة المضارع كزمن روائي، أو القفز من الزمن الماضي إلى المضارع والعكس. وربما السبب وراء ذلك هو أن الكاتب لا يزال يعيش تلك الأحداث، حتى لحظة الكتابة وما بعدها، ولعل هذا ما دفعه في النهاية إلى الانتحار. ومن جانب آخر يسعى إلى جعل القارئ يشعر، على الدوام، بأن الأحداث تقع الآن، في لحظة القراءة، والقارئ يعاصرها، ويعيشها مع شخصيات الرواية، ليصبح شاهدا عليها. لذا سعينا إلى الاحتفاظ بهذه الخاصية، كما هي في النص الأصلي.
عالم من جهنم
يضيف محمد “في المقام الثاني نرغب في الإشارة إلى اللغات المختلفة الواردة في متن الكتاب، على الأخص اللغة الألمانية. ولعلها ليست إلا لغة مكسرة، فليست الفرنسية هي الفرنسية، ولا الألمانية هي الألمانية، إنها لغة المعسكر، بما تحويه من أخطاء ومزيج لغوي. ويشبه الكاتب المعسكر ببرج بابل وتعدد الألسن فيه، إذ كان سكانه من جنسيات عديدة، تختلف لغاتهم باختلافها. لهذا سعينا إلى إيراد بعض العبارات، كما وردت في النص الأصلي، من أجل إعطاء القارئ العربي فكرة عن خليط الألسن هذا. ولم نورد العبارات كلها، لأنها من الكثرة ما قد يشكل عبئا يثقل على القارئ، ويوقع في نفسه الملل والضجر.”
ويؤكد أن هذا اجتهاد منه يتحمل مسؤوليته بلا شك، ويلتمس العذر في أن هذا النص، قبل كل شيء، رواية لا بحثا علميا يقبل الحواشي والشروح، وإن كان شهادة أليمة وحقائق وقعت فعليا. ومع أن الكاتب يسعى في الغالب إلى ترجمة الجمل، ولكن الإتيان بها يعكس أولا اختلاف الألسن، وثانيا شعوره في وقوف اللغة عاجزة أمام التعبير عن الأشياء، لذا يوردها كما هي في لغة المعسكر.
وعجز اللغة أمام ما مر به ليفي الإنسان يتردد أكثر من مرة في الرواية. فهو أحيانا يشير إلى ما لا يعرف كيف يرويه، وأحيانا أخرى إلى ما لا يمكن قوله، وكذلك إلى افتقار الألسنة إلى الكلمات. وفي مواضع أخرى يذكر الجوع الذي لا يشبه الجوع والبرد الذي لا يشبه البرد والشتاء الذي لا يشبه الشتاء. هذا كله يضعنا أمام عجز اللغة عن التعبير وأداء دورها في إيصال الصورة. ويجعل القارئ أمام كلمات لا تجسد فعليا ما شعر به الإنسان في معسكرات الإبادة. بل إن الكاتب يصرح مباشرة من أن لغة جديدة كانت ستولد لو استمرت معسكرات الإبادة لوقت أطول، لغة ربما بإمكانها التعبير عن المعاناة الحقيقية.
وقد أدى قصور اللغة عن التعبير، على ما يبدو، إلى استخدام الكاتب للغة ملتوية ومفككة بنحو ما، تطول جملها ويتداخل فيها الوصف، وأحيانا تقطع الأقواس تسلسل الأحداث أو القص. وربما كانت الغاية من ذلك هي جعل القارئ يشعر بفوضى الحياة في المعسكر، وتشعبها وتداخلها المشتت للذهن. فينعكس ذلك كله على اللغة نفسها، وعلى طريقة الروي، ليصبح عالم المعسكر غريبا لا يمت إلى الحياة بصلة.”
ويؤكد كاصد أن هناك الكثير من التلميحات إلى أن المعسكر عالم خارج العالم، عالم خاص لا يشبه إلا جهنم. أجل، وعلى الأخص جهنم دانتي وسكانها متعددي الألسن. لذا لا مناص هنا من التنويه بحضور الكوميديا الإلهية لشاعر إيطاليا الأكبر دانتي، على الأخص الجحيم، في معظم فصول الكتاب، لأنها العالم الوحيد الذي استطاع الكاتب تمثله وتشبيه عالم المعسكر به. وعلاوة على ورود الكثير من أبيات الكوميديا الإلهية في بعض الفصول، فهناك تلميحات وكلمات وتشبيهات يزخر بها النص، مستوحاة منها. بل إن حكايات الكتاب تذكر، إلى حد كبير، بجحيم دانتي. فكما يصف دانتي الشخوص وذنوبهم وعذاباتهم، كذلك يفعل بريمو ليفي، كما سيرى القارئ.
◙ القارئ يشعر، على الدوام، بأن الأحداث تقع الآن في لحظة القراءة وهو يعاصرها ويعيشها مع شخصيات الرواية
وأخيرا يشير المترجم إلى استخدام كلمة “مسلم” في معسكرات الإبادة، في المفرد أو في الجمع، للتعبير عن المرحلة الأخيرة التي يصل إليها المعتقلون المسحوقون، الذين كانوا يحسبون في عداد الأموات، وهم فعليا جلْد على عظْم. وعادة ما يكونون أول منْ يقع عليهم الاختيار، لإرسالهم إلى غرف الغاز. وثمة افتراضات لاستخدام مفردة “مسلم” مع من يوشكون على الموت. يأتي الافتراض الأول من كونهم مستسلمين تماما لمصيرهم، حتى اللحظة التي يأتيهم فيها الموت. أما الافتراض الثاني، فهو ناتج عن استخدامهم لخرق يلفون بها رؤوسهم، كضمادات لجراحهم، فتبدو على هيئة عمامة المسلم. على أن هذيْن الافتراضيْن ضعيفان وغير موثوقيْن.
بينما يرتئي بعض الذين عاشوا تجربة المعسكرات، أن سبب هذا الاستخدام هو أن هؤلاء الرجال، المنهكين وخائري القوى من شدة الجوع ونقص التغذية الطويل، كانوا يسقطون على الأرض في هيئة الساجد. والحقيقة فإن هناك تسميات غير مفردة “مسلم”، قد استخدمت في المعسكرات. مثل المفردة الروسية “Dochodjaga” والتي تعني حرفيا “الوصول إلى النهاية” أو “الختام”، كما استخدمت في معسكر النساء أيضا مفردة “قمامة” للإشارة إلى المرأة التي تصل إلى الحالة نفسها.
يذكر أن بريمو ليفي ولد في مدينة تورينو في إيطاليا عام 1919، وتوفي في 11 أبريل 1987. وهو أحد الناجين من الهولوكوست، وقد كتب العديد من الكتب والمقالات والقصص القصيرة التي تتناول تجربته في معسكرات الاعتقال النازية، بما في ذلك كتابه الأشهر هذا. نشأ في مجتمع يهودي صغير في تورينو، ودرس الكيمياء في جامعة المدينة، حيث تخرج بدرجة امتياز في عام 1941. بعد ذلك، انضم إلى حركة المقاومة في شمال إيطاليا، لكنه اعتقل وأرسل إلى أوشفيتز في عام 1944. بعد تحرير أوشفيتز من قبل القوات السوفييتية في عام 1945، عاد ليفي إلى تورينو، حيث أصبح مديرا عاما لأحد المصانع.
أعمال ليفي الأدبية تتضمن كتابه الأول “ما إذا كان هذا إنسانا” (1947)، وكتاب “الهدنة” (1963)، و”الغرقى والناجون” (1986)، و”الجدول الدوري” (1975)، الذي يعتبر أحد أعظم أعماله النقدية والشعبية. ليفي أيضا كتب الشعر والروايات والقصص القصيرة. وتوفي عام 1987 نتيجة إصابات تعرض لها إثر سقوطه من شرفة شقته في الطابق الثالث. حكمت المحكمة في تورينو على وفاته بأنها انتحار، رغم أن بعض أصدقائه وزملائه شككوا في ذلك واعتبروا أنها قد تكون حادثة.
مقتطف من الكتاب
وباغتنا الفجر كما تفعل الخيانة، وكأن الشمس هي أيضا تسهم مع القوم في إقرار إبادتنا. المشاعر المختلفة التي تأججتْ في أنفسنا، كالقبول النابع من الوعي، والثورة التي لا مآل لها، والاستسلام لإرادة السماء، والخوف والقنوط، كلها تصب، بعد ليلة الأرق تلك، في لحظة جنون جماعي منفلت.
وقد فات أوان التأمل والثبات، وانصهرتْ كل خطوة عقلانية في ذلك الاضطراب العارم، وطفتْ فوقه خاطفة كالبرق، أليمة كطعن السيوف، ذكريات بيوتنا العذبة التي كانتْ قريبة منا في الزمان والمكان.
كثيرةٌ هي الأشياء التي قلناها لبعضنا البعض، والتي دارتْ بيننا، على أنه من الأفضل ألا يبقى ذكْرٌ لها.