للكتابة الأدبية ثلاث خانات: واحدة للأجناس وثانية للأنواع وثالثة للأشكال

حوار بين ناقد مغربي وكاتب عراقي يطرح مسألة تجنيس المقالة.
الأربعاء 2024/06/19
تجنيس الأدب يطور الكتابة (لوحة للفنان خالد الساعي)

التجنيس الأدبي قضية بالغة الدقة والأهمية في تطوير الأدب، إذ من غير الممكن تجديد الكتابة الأدبية دون تجديد طرائقها وتصوراتها وأساليبها، وهذا ما يعمل عليه جنبا إلى جنب الناقد والأديب. وفي تقاطع الأدب والنقد تنشأ النظم التي من خلالها تتأسس الأجناس الأدبية.

تُطرح قضية الأجناس الأدبية بين الفينة والأخرى على طاولة النقد الأدبي تارة من باب فحص تجنيس نوع من الأنواع وتارة أخرى من باب تمييع الأجناس بدعوى الهجنة والتداخل في الكتابة الأدبية. وفي هذا المجال لا بد من القول إن الأدب دائم التجدد، والنقد هو المقنن لهذا التجدد بعلمية مناهجه وموضوعية نظرياته. وعلى الرغم من ذلك فإن لا مسافة فاصلة بين الأدب والنقد بوصفهما وجهين لعملة واحدة هي “البحث عن الجمال”.

 ولا يكتمل الإحساس بالجمال وتذوقه ما لم يكن الأدب حاضرا من خلال الممارسة النقدية، والنقد حاضرا خفيا في العملية الإبداعية فضلا عن وضوح اهتمام ممارسيهما الجادين والجديين. وهو ما تجلى في الحوار الذي دار بين أديبين كبيرين أحدهما ناقد معروف من المغرب العربي هو الأستاذ سعيد يقطين والآخر سارد ألمعي كبير من المشرق العربي هو القاص محمد خضير، وقد كشفت عن مداره ومساره مقالة الأستاذ يقطين المعنونة بـ”أنواع الكتابة النقدية” والمنشورة في جريدة “القدس العربي” بتاريخ 12 يونيو 2024.

قضية التجنيس

قضية الأجناس تتصدر الواجهة حين يظهر نوع أدبي لديه القابلية لتأكيد الفرادة، فيكون النقد حينها مطالبا بأداء دوره
قضية الأجناس تتصدر الواجهة حين يظهر نوع أدبي لديه القابلية لتأكيد الفرادة، فيكون النقد حينها مطالبا بأداء دوره

ما لفت انتباهي لما دار بينهما وانشدادي إليه مرده اشتغالي المتواصل خلال المدة الماضية في قضايا التجنيس وتمظهراتها وتجلياتها وصولا إلى نظرية “العبور الأجناسي”، وكان السؤال الأبرز في حوارهما يدور حول تجنيس الممارسة النقدية ولاسيما أنها متنوعة الصيغ والأشكال، يندرج فيها النقد الأدبي والفكر الفلسفي والبحث التاريخي والأدب النقدي والسيرة الفكرية والمناظرة الحوارية والأرشفة الموسوعية والبحث الأكاديمي والنظرية الأدبية والنظرية النقدية والدراسة الثقافية والتراثية. وانطلاقا من هذا التعدد (الجمالي) في ممارسة النقد الأدبي لا يعود ثمة تصور أحادي للأدب أو استقلال معرفي للنقد؛ لأن لا مسافة فاصلة بين الاثنين، ولا يمكن لأحدهما أن يعمل بمعزل عن الآخر.

وليست تلازمية الأدب والنقد بالجديدة، بل هي متجذرة بدءا من أول قول شفاهي ابتدعه الإنسان واكتشف أن ما قاله أدب. ومهما تطور الأدب وتعقدت مفاهيم النقد ومقاييسه، فإن التلازمية تبقى قائمة بغض النظر عن طبيعة الوسائط المعتمدة شفاهية أو كتابية، ورقية أو إلكترونية.

وفي خضم هذا كله تبزغ قضية التجنيس وفيها الأدب هو المنتِج والنقد هو المسؤول عن تقنين هذا الإنتاج. ووفقا لهذا عَرَفَ الأدب القديم ثلاثة أجناس كبرى أرسطية ثم تحددت في العصر الحديث أجناسٌ صغرى تأكدت مواضعاتها الخاصة والمختلفة بما فرضته أدبيتها على النقد من مهمة اختبار فاعليتها. وأول رهانات هذا الاختبار هو التاريخ إذ أن فيه يختمر الابتداع، وتتجلى من ثم صلاحيته لأن يكون جنسا أدبيا أو لا.

وما من تجنيس إلا إذا توفرت له خلفيات وساعدته مؤهلات بها تتأكد أصالة قالبه. وهو ما حصل مع أنواع كتابية أثبت التاريخ صلادتها كالرواية والقصة القصيرة. وما عدا ذلك من ألوان الكتابة الأدبية يظل موصوفا نقديا بالأنواع أو الأشكال أو الأنماط حسب ناجزية ما لها من فاعلية وامتداد. ولهذا تغدو “قوالب” الأجناس محددة ولا تتعدد إلا نادرا بينما الأدب في تجدد وتعدد دائمين. ورهان التجنيس هو في الثبوت النوعي والاستقرار النهائي مما توجبه فتوجزه مفردة (القالب).

وعادة ما تتصدر قضية الأجناس الواجهة حين يظهر نوع أدبي لديه القابلية لتأكيد الفرادة، فيكون النقد حينها مطالبا بأداء دوره في الإقرار بأجناسيته، كما حصل مع قصيدة النثر وقبلها القصة القصيرة. أما مسألة نفي الأجناس أو القول بتداخلها وعدم نقائها، فلا يدخل في إطار الإشكالية التجنيسية التي شرحناها آنفا. وإنما هي تصورات تغرد خارج سرب القضية أصلا وتقفز على التاريخ وما تحصَّل عليه الأدب عبر عصوره السحيقة من أجناس ثبتت حقيقتها منذ أرسطو إلى اليوم.

وفي إطار البحث في قضية الأجناس تطرح تساؤلات حول هيمنة جنس أدبي ما (تعاليه بالفهم التراندستالي للكلمة) بفاعلية ما يضمه في داخله من أنواع وأشكال، لها إنتاجية واضحة وتفرض نفسها على مساحة واسعة من عالم الأدب، فهل يعد كل نوع أو شكل جنسا أدبيا؟ وهل ينفي تجنيس النوع فاعلية الجنس المهيمن فيفقد صلاحيته ويصير لزاما إخراجه عن الخدمة؟ وماذا عن الأشكال والأنماط التي لم تفرض نفسها أنواعا لكن فيها من التجديد ما يجعل التفكير في بلورتها جنسا مطلبا من مطالب دعاة التهجين والمداخلة بين النصوص؟

على نهج الجاحظ في كتابة المقالة سار أدباء كثيرون جمعوا النزعة الأدبية بالنقدية والذاتية بالموضوعية

هذه الأسئلة وغيرها لا يجيب عنها من يرى أن الأجناس نصوص لها تراكيب وأبنية داخلية، وما من حدود خارجية لها يمثلها قالب محدد المقاييس. ومن ثم هي قابلة للتهجين والتداخل والتناص؛ بل تجيب عن تلك الأسئلة نظريات الأجناس بكل ما تعنيه من تصورات نقدية بُنيت على خلفية ما انتهت إليه نظريات سابقة من مؤديات ومقتضيات. وكان لنا في غربلة تلك النظريات رصيد، هدانا لأن نقع على نظرية “العبور الأجناسي” وحددنا أربعة أجناس تنطبق عليها فاعلية العبور هي: الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر والمقالة.

وشرحنا نظريا وتطبيقيا كيفيات عمل الجنس العابر وشرائط تبلوره في كتابنا “نحو نظرية عابرة للأجناس” 2019 . ووفقا لنظرية العبور تغدو للكتابة الأدبية خانات ثلاث؛ واحدة للأجناس وهي نوعان: الأول اعتيادي، قَنن النقد أبعاده ومتاحات عمله، والآخر عابر يهيمن على غيره من الأنواع مموهًا إياها وفارضًا قالبه عليها. والخانة الثانية للأنواع والثالثة للأشكال وما دونها كالأنماط والصيغ. وإذا كانت الخانتان الأخيرتان غير قطعيتين في توصيفاتهما واشتراطاتهما، فإن الخانة الأولى قاطعة في حدية ما للجنس “عابرا وغير عابر” من قالب قار لا يقبل المداخلة والهجنة ولا يسمح بالمناقلة أو التنافذ وإلا انتُهكت أجناسيته وفقد ما كان التاريخ قد أثبته له، وما كان النقد قد منهجه على وفق مفاهيم النظرية ومقاييسها الأرسطية وما بعد الأرسطية.

أما لماذا تهيمن أجناس بعينها في الخانة الأولى؟ فبسبب ما لها من تغاير في إمكانيات قالبها من ناحيتي الفاعلية الإنتاجية والوظيفة الجمالية. أما وظيفة النقد فهي فرز -وليس صناعة- ما في هذه القوالب من صلادة وقابلية لصهر نوع أو جنس أو أكثر داخلها، وفرض حدية قالبها عليه. والقالب العابر هو الذي يُفقد المصهور هويته فيسمه بميسمه. وبذلك تتأكد الصلابة الحدية والمناعة التجنيسية للجنس العابر بما كان قد جرى من عمليات التجاور والتقارب والتضايف التي كانت قد تطلبتها سيولة التجسير ومرونته فكان العبور ختامها الدال على ما للجنس من فرادة واستقلال وهيمنة وغلبة ونقاء من أي خلط أو اضطراب أو تهجين أو تداخل.

جنس المقالة

حح

لنمثل على الجنس المهيمن هنا بالمقالة التي كانت مدار الحوار بين الأديبين الكبيرين؛ القاص والناقد. والحديث عما لكتابة المقالة من قواعد فنية وموضوعية ليس بالجديد، لكن الجديد هو البحث في قدرة قالبها على العبور. فحدود المقالة مقننة بقالب لا يناظره أي قالب آخر، لكن لهذا القالب -كما للأجناس الثلاثة العابرة- سيولة المحتوى الذي يؤهله لأن يضم مختلف ألوان الكتابة الأدبية وغير الأدبية التي تنصهر داخل القالب فيهيمن بحديّته ومن ثم يتحقق له العبور.

ولا نتصور أن العبور سمة جديدة في المقالة، بل هو أمر راسخ فيها منذ القدم. ولا نتصور أيضا أن هذا القدم يعني زمن تأليف ميشيل مونتيني لكتابه “المقالات” في القرن السادس عشر الميلادي، لسبب وجيه هو أن أي ابتداع لا يأتي من فراغ كما لا يكون من دون خلفيات هي عبارة عن تراكمات شكلت تقاليد، كان الأدباء قد ساروا عليها واستمروا يسيرون. وبإمكان من يريد البناء عليها أن يطورها ويضيف إليها. (وقد فرغت قبل مدة من دراسة لي حول أقلمة مونتيني لتقاليد كان الجاحظ قد سار عليها في كتاب الحيوان، وستنشر قريبا في مجلة أجنبية هي “Journal of Islamic studies research”).

والجاحظ نفسه طوّر تقاليد كانت سائدة في عصره، وأعطى لهذا التطوير مسمى مشتقا من مفردة “القول” التي كانت في زمانه علمية -ويضيق المقام للتدليل على اصطلاحية القول في التراث الإسلامي- واشتق الجاحظ من القول “مقاولة” و”مقالة” و”قالة” وهي متناثرة في كتبه ورسائله جميعها وتعني قطعة نثرية تجمع كل ما هو جمالي ومعرفي علما وأدبا ونقدا وسردا وشعرا وتاريخا وفلسفة. وعلى الرغم من هذه السعة، فإن الجاحظ فضّل الكتاب على المقالة قائلا “لا أعلم قرينا أحسن موافاة ولا أكمل مكافأة ولا أحضر معونة ولا أخف مؤونة ولا شجرة أطول عمرا ولا أجمع أمرا ولا أطيب ثمرا ولا أقرب مجتبى ولا أسرع إدراكا ولا أوجد في كل أبان من كتاب” الحيوان، الجزء الأول، ص42. وسار على نهج الجاحظ في كتابة المقالة أدباء كثيرون، جمعوا النزعة الأدبية بالنقدية والذاتية بالموضوعية، نذكر من هؤلاء عبدالحميد الكاتب والتوحيدي وابن الجوزي.

تلازمية الأدب والنقد ليست بالجديدة، بل هي متجذرة بدءا من أول قول شفاهي ابتدعه الإنسان واكتشف أن ما قاله أدب

إذن العبور ليس سمة يضيفها النقد إلى الجنس الأدبي، بل هي من أسس تبلوره الأجناسي لكن حقيقته لا تتأكد إلا بالنقد واختبارات مقاييسه. وبهذا يكون العبور فاعلية إبداعية قبل أن يكون نظرية نقدية تتأتى أصالتها من خلال تطبيقها على ما تخصصت فيه. وتتوقف الإفادة من عبور المقالة على ما للكاتب من قدرات وخبرات وتجارب سواء كانت المقالة التي يكتبها أدبية أو قصصية أو نقدية أو صحفية أو حوارية. وهذا ما عرفه الكتّاب العرب فاعتنوا منذ نهضتهم الأدبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر بكتابة المقالة.

واختلف النقاد في توصيف المقالة، فالدكتور علي جواد الطاهر يراها كتابة أدبية تنبثق عن قراءة الرواية أو مجموعة قصصية أو هي نقد يعالج مصطلحًا وقد تجيب عن سؤال أو تصحح خللًا في كتاب أو تؤشر بحثاً. أما الدكتور فائق مصطفى، وهو أكاديمي عراقي أولى المقالة اهتماما خاصا نقدا ودراسة، فيرى في كتابه “المقالة الأدبية والاستنارة” أن المقالة أعمَّ من أن نصفها بالأدبية وفيها يبرز الطابع الذاتي الذي يجعلها تعبيرًا مباشرًا عن الرؤية الذاتية والتجارب والخبرات الحياتية وهي محدودة في الطول والموضوع وتقع في بضع صفحات ولغتها سهلة واضحة، وتقل فيها الانزياحات.

وما من تجنيس في نقد المقالة ونقد نقدها وقراءتها، وإنما توصف كلها بأنها نقد أدبي أيا كان شكل كتابتها؛ مقالة صحفية أو بحثا أكاديميا أو تحليلا نصيا أو أطروحة جامعية. والناقد قبل أن يوضح ويشرح ويفسر ويقارن هو قارئ ولكنه بالتخصص يستطيع أن يستقرئ الظواهر ويستنتج المحصلات. والمنهجية التخصصية لا تغير من أجناسية المقالة ولا من عبورها، لكن القيمة المعرفية التي تحملها تجعلنا نعطيها توصيفا فنقول “مقالة”. ويمنح عبور المقالة الناقد القدرة على أن يستجمع الكثير فيختزله، وتكون معطيات ما يكتبه كـ”مقالة” لا تقل من الناحية العلمية عن معطيات ما يكتبه في بحث أو كتاب. وهذه العابرية في جنس المقالة هي أحد أسباب المداومة على كتابتها والتنويع فيها، ولا يوصف هذا التنويع بالنقدي لأن الأدبية والنقدية -كما قلنا في مفتتح المقال- هما وجهان لعملة واحدة هي البحث عن الجمال.

12