للطيبة حدود.. البصل بدولارين

عندما أعلن القائمون على خيمة الإفطار التي دأبوا على تنظيمها سنويا على الطريق السريع ببلدة قاديرية شرقي العاصمة، عدم نصبها خلال هذا الشهر لأسباب لوجستية وإدارية، كانت العديد من دوائر الخير قد اختفت في صمت، بينما قاومت أخرى من أجل الحفاظ على تقاليد روحية تبرز جانبا من شخصية الفرد الجزائري المتكافل والمتضامن والمتلاحم.
لا يختلف اثنان على طيبة جزائريين جبلوا على فعل الخير ومساعدة الآخرين في مختلف الظروف والمناسبات والأزمات، إلى درجة أن أحرج الناشطون والمتطوعون المؤسسات الرسمية في البلاد والمنظمات والجمعيات المستفيدة والباحثة عن الأضواء، لكن إلى متى هذه الطيبة، أوليس للطيبة حدود؟
لقد ضحى بعض هؤلاء بحياتهم من أجل القيام برسالتهم الخيرة، فقد دفع اثنان منهم حياتهما في حوادث سير بعنابة والشلف بسبب تهور البعض، وبكى الجميع الشاب العشريني وأستاذة التعليم، فهما يمثلان إرادة خيرة جبلت على فعل الخير في زمن تكاثرت فيه معاول الهدم والنهب.
وفيما كان هذان يواريان الثرى، كان وزير من طاقم منظومة “الجزائر الجديدة” يمثل أمام القضاء للتحقيق معه في قضايا فساد مالي وسوء تسيير واستغلال وظيفة، وهي مفارقة عجيبة تترجم الفارق بين الأيادي التي تصنع الخير كل في مستواه ومكانه، وبين الأيادي التي تنهبها وتبدد إمكانياتها من مناصبها.
ماذا يوجد في جعبة الحكومة لكي تظهر للجزائريين في قضية البصل، غير الفشل وسوء التسيير والتدبير والافتقاد للتخطيط
خيمة قاديرية كانت تفطر يوميا نحو ألف شخص بين عابر سبيل ومعوز وفقير، ولأنها لم تحصل على ترخيص إداري وخانتها الإمكانيات، اضطرت إلى طي سرادقها، في مؤشر على أن الطيبة المغروسة في أعماق الطيبين بلغت حدودها في تحول اجتماعي ونفسي مستجد، حتى ولو كان معزولا هنا وهناك، غير أن العدوى تنتقل شيئا فشيئا لتأكل واحدة من القيم النبيلة التي ورثها هؤلاء أبا عن جد.
أثناء الجائحة الصحية تطوع الخيرون والمحسنون لجلب الأدوية وتوفير قنينات الغاز واقتناء الأجهزة للمستشفيات، وبين الفينة والأخرى يتفرغ متطوعون للتبرع وجمع الأموال لمريض ما، حالته تستدعي النقل للعلاج في الخارج بكذا ألف من الدولارات.
لكن هذه الطيبة العفوية، صارت مصدر إزعاج للمؤسسات الرسمية وللأذرع الاجتماعية للسلطة، ولذلك يدخل في كل مرة هاجس التوظيف السياسي في العمل التضامني، الأمر الذي أوحى للجهات الوصية بخارطة طريق لتأطير وحصر التطوع تحت عباءتها بغية تحييد من يريد سرقة الأضواء من مؤسساتها أو تمرير رسائل سياسية في غير صالحها.
هناك علاقة غير طبيعية بين متطوعين عفويين ومحسنين لا تهمهم الشهرة والأضواء، وبين حكومة أكلها الشك في كل شيء وتفرط في أداء مهامها التي وجدت لأجلها، فلو وفرت وطورت الخدمات الصحية اللازمة، لما تصدرت حالات اجتماعية تنفطر لها القلوب وسائل الإعلام الكلاسيكي وشبكات التواصل الاجتماعي، طلبا للمساعدة من أجل العلاج في الخارج، لأن الخدمات المتوفرة لا تفي بالغرض.
حالات من كل الفئات الاجتماعية المعوزة والفقيرة، وحتى من مشاهير الفن والرياضة، وتدخل الأوامر الفوقية لصالح هذا أو ذاك، كلها عوامل تكرس فوارق ومشاعر تهميش في توزيع المال العام، وعرقلة المال الخاص تزيد من تثبيط عزيمة الطيبة وتحد من إرادتها، رغم أنها تساهم كثيرا في تغطية نقائص المؤسسات الرسمية.
وإذ تذكّر أصداء العمل الخيري المتراجع في السنوات الأخيرة بأن تراجع القدرة الشرائية وتوسع دائرة الغلاء أثرا على تبرعات المحسنين، ولم تعد هناك تلك المرونة التي عهدها الرأي العام خلال وقت مضى، عندما كانت تُجمع مبالغ ضخمة في أوقات قياسية لأصحابها.
لا تحتوي ذاكرة الجزائريين أي حادثة عن ارتفاع جنوني لأسعار البصل كما يحدث هذه الأيام وفاق سعره دولارين للكيلو الواحد، ولا أحد قدم قراءة موضوعية للظاهرة
ولعل وصول سعر البصل إلى أكثر من دولارين للكيلو الواحد، هو عنوان اللغط الذي يصم آذان الجزائريين في الأسابيع الأخيرة، بتداعياته ودلالاته العميقة لتحولات الجبهة الاجتماعية والاقتصادية، فالبصل الذي صار عبئا يؤرق ميزانية الأسر، لا يمكن التبرع به للأعمال الخيرية، فكلفة الإفطار المجاني ارتفعت ثلاثة أضعاف حسب ناشطين في العمل الخيري، وتلك أحد أسباب التراجع المسجل في هذا المجال.
وكما ألمحت الحكومة إلى أن متطوعين ومحسنين يقومون باستغلال الأوضاع الاجتماعية لتمرير رسائل سياسية تضر بصورة المؤسسات الرسمية وتدعم الفوضى داخل المجتمع، ينتظر الجزائريون منها روايات مشابهة لتبرير حكاية البصل التي تصدرت أحاديث ونقاشات المجتمع. لكن الحقيقة تبقى غائبة عن أزمة البصل كما غيبت عن العلاقة التكاملية اللازمة بين المحسن وبين الحكومة.
لا تحتوي ذاكرة الجزائريين أي حادثة عن ارتفاع جنوني لأسعار البصل كما يحدث هذه الأيام وفاق سعره دولارين للكيلو الواحد، ولا أحد قدم قراءة موضوعية للظاهرة، فالمادة التي ظلت مقرونة بكل ما هو متدن، ويعير به أصحاب المكانة الاجتماعية المهزوزة، فيقال “فلان لا يساوي بصلة”، باتت البصلة الآن مصنفة ضمن فئة الفواكه والكماليات ولا ينالها إلا الميسورون.
فماذا يوجد في جعبة الحكومة لكي تظهر للجزائريين في قضية البصل، غير الفشل وسوء التسيير والتدبير والافتقاد للتخطيط، وإلا كيف لهذه المادة التي كانت حتى عام فقط ترمى في مزارع وادي سوف وبسكرة، لأن العرض فاق الطلب، وأمام غياب إمكانيات التخزين والتصدير والتحكم في الإنتاج، أفلس المزارعون وطلقوا ممارسة زراعة البصل بالثلاث، إلى أن انقلب السحر على الساحر وصار مرادفا للفواكه والكماليات.
هناك خلل بائن، فكما يسير المجتمع ومعه الحكومة إلى تضييع فرصة الطيبة وقيمة التكافل الشعبي العفوي، بسبب العلاقة غير السليمة، يجري إنتاج أزمات البلاد في غنى عنها، فبلد بحجم قارة وهو أكبر بلدان أفريقيا وعاشر دول العالم مساحة، المفروض أنه هو من يقوم بتمويل نفسه والعالم بالبصل وبغير البصل، لو كان صاحب القرار حكيما رشيدا.