للرجل حريمه وللنساء حريمهن في الفضاء الرقمي

خلق العالم الرقمي تغيرات اجتماعية كبيرة ليس على مستوى الأفراد فحسب بل في جسد المجتمع ككل، بكل ما يحكمه من علاقات متداخلة ومتشابكة، تغيرت طرق إنشائها وتغيرت ملامحها بفعل وسائل التواصل الاجتماعي وما خلفته من نظم جديدة. وهذا ما يناقشه السوسيولوجي المغربي موسى برلال.
إن جرد مختلف الدراسات السوسيولوجية التي أنجزت حول المجتمع المغربي يحيل على الحضور اللافت لموضوع “التحولات الاجتماعية” الذي يستحق وصفه بالقضية الأساسية المطروحة على السوسيولوجيين المغاربة في العصر الراهن، وذلك وفقا لأستاذ علم الاجتماع والعلوم الإنسانية المغربي موسي برلال.
ويرى برلال أن الأنساق والبنيات الاجتماعية والثقافية المغربية ما فتئت تتفكك وتتحول منذ احتكاك المجتمع المغربي مع المستعمر ونظمه السياسية والثقافية والاقتصادية إلى حدود الثورة التكنولوجية والرقمية العابرة للقارات التي يعرفها العصر الراهن، بل إن هذه التحولات أصبحت لدى بعض الباحثين بمثابة براديغم لتفسير ما استجد من الظواهر والمشاكل الاجتماعية، غير أن هذه التحولات تحتاج بدورها إلى إبراز القوانين التي تحكمها وتفسرها.
التحولات في المغر

أي وضعية تعيشها المرأة المغربية في ظل التحولات الاجتماعية
يبحث برلال في كتابه “الحريم الرقمي.. نحو براديغم لوضعية المرأة المغربية في ظل التحولات الاجتماعية”، الصادر عن دار بردية للنشر، في وضعية المرأة المغربية في ظل التحولات الاجتماعية بشكل خاص، ذلك لأن وضعية المرأة هي أبرز معبّر عن النظام الاجتماعي بكامله، وبالتالي التحولات التي لحقته، ذلك لأن المجتمع نفسه يتأسس على تصور معين للمرأة وحقوقها وأدوارها وعليه لا يمكن الحديث عن وضعية المرأة منفصلا عن السياق الاجتماعي “المتحول”، حيث أن المرأة ليست بكائن منعزل أو مقولة مجردة بقدر ما هي كائن يتفاعل مع الواقع ويؤثر فيه ويتأثر به. كما أن الحديث عن التحولات الاجتماعية لا يجب أن يقف عند المتغيرات المحلية، لأن هذه الأخيرة مرتبطة بتحولات عالمية حقوقية وتكنولوجية وعلمية وقيمية.
ويشير برلال إلى أن بحثه ليس هدفه مجرد عرض لحسنات إدماج المرأة في مختلف الأنظمة الاجتماعية، فذلك يسهل تتبعه من خلال اطلاع بسيط على الإحصائيات المنجزة بهذا الخصوص، وإنما قيمة البحث العلمي تكمن في وضع تلك المعطيات موضع تساؤل وفحص حتى يتسنى لنا الوقوف عند البراديغمات التفسيرية المناسبة لفهم دلالة التحولات والوضع الجديد الذي تمر به مجتمعاتنا.
ومن ثم تكمن أهمية الدراسة في كونها تحاول توليد المفاهيم والبراديغمات ولا تكتفي بسرد ما يجري في الواقع على غرار ما يتم في الخطاب الصحافي، وذلك لأن توجيه التحولات التي تمر بها مجتمعاتنا أو التحكم فيها (من المنظور التنموي) يفترض قبلا فهم طبيعتها وتفسير خلفياتها السوسيولوجية.
ويذكر الباحث أن المغرب دخل عصر ما بعد الحداثة بعدما ساد فيه خطاب الحداثة قرابة نصف قرن، والذي أعقبه تحديث المجتمع المغربي لبنياته، رغم ما يشوب ذلك من تعثرات. فقد بدأت بوادر الحداثة في المغرب على وجه الخصوص في فترة الأربعينات عندما قرر الملك محمد الخامس تعليم المرأة “ويشهد له بالدور الحاسم في بناء المغرب الحديث”، فتم فتح باب مسجد القرويين أمام النساء أيضا، وسيعقب ذلك ترسيخ بنيات التعليم العصري إلى جانب التعليم التقليدي.
وقد وجد الوطنيون في تلك الفترة في كتاب “النقد الذاتي” لرائد النهضة المغربية علال الفاسي؛ مرجعا أساسيا لمساءلة الذات في أفق بنائها والبحث عن سبل التغيير. وها نحن الآن نعيش في ظل براديغم ما بعد حداثي والبراديغم اللاحق لا يعني أنه يلغي البراديغم السابق. ولذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الخطاب ما بعد الحداثي ومحدداته السوسيولوجية لكي نفهم الإبستيمي “نظام المعارف” الذي نعيش في ظله.
ويقر بأنه لأمر غريب أن نعيش ما بعد الحداثة بعد فترة قصيرة من استلهامنا لخطاب الحداثة ونظمها، في مقابل الغرب الذي يعيش ما بعد الحداثة على أنقاض الحداثة التي عمرت قرابة أربعة قرون.
الحريم الرقمي
دخلنا في عصر تفككت فيه المؤسسات والعلاقات الاجتماعية التقليدية بينما سهّل العالم الرقمي العلاقات البديلة
يوضح برلال أن الحريم التقليدي هو فضاء مكاني قبل كل شيء، لكن ما يميز هذا الفضاء هو أنه يخضع لقوانين محددة تميزه عن غيره من الأمكنة، بمعنى الفضاء الخاص الذي يفصل الشيء عما في الخارج ويمنحه حرمته، وتقول فاطمة المرنيسي “الحريم هو الفضاء الخاص المحظور على العموم”. أما المقصود بالحريم الرقمي فهو الفضاء الرقمي والأشخاص المقبولون ضمنه معا. إذ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تخضع بدورها لهذا الحريم الذي تم ضبطه بقوانين محددة، فالفرد يختار من يكون صديقا له ومن يرى منشوراته، وله الحق في التحكم في ذلك من إعدادات حريمه الرقمي حيث هو سيد القرار.
ويتابع الباحث أن الحريم الرقمي (الافتراضي) هو الفضاء الذي يسعى فيه الفرد لفرض سلطته ويبحث عن تحقيق متعة قصوى فيه وبواسطته، ولا بد للصداقات الرقمية من أن تجد سبيلها إلى الواقع لأن في ذلك يكمن الاختيار الحقيقي في اللحظة التي تتوقف فيها الآلات عن العمل. والعودة إلى الواقع من جديد بدلا من عيشه على الشاشة. غير أن الانتقال من الفضاء الرقمي إلى الواقع يحتاج الثروة ما دمنا نعيش في حضارة الاستهلاك. إذن فالثروة هي العنصر الفاصل بين الفضاء الافتراضي والواقع، فالرجل الذي يمتلك ثروة يسهل عليه الالتقاء على أرض الواقع مع أفراد حريمه. وتنتقي المرأة أفراد حريمها وفق محددات مختلفة؛ هذا يستمع لشكاويها، وهذا يمتدحها، هوذا يوفر لها مالا وخدمات وهذا شريكها الجنسي.. إلخ.
يرى برلال أن الإنترنت هو خزان للمتعة بامتياز، ويجد الأفراد فيه ملجأ لهم جراء الأزمات التي تحول دون إشباع رغباتهم الجنسية. أما المرأة بشكل خاص، وبما أنها تملك الجسد باعتباره موضوع الصراع الاجتماعي، فقد لا تكتفي بمشاهدة الأفلام الإباحية أو ممارسة الجنس مع أفراد من حريمها الرقمي عن بعد، بل قد تعرض جسدها في الفضاءات العمومية والشارع، وهذا هو الشكل الشائع في ممارسة الدعارة، لكن يبدو أن الفضاء الرقمي منحها وسيطا جديدا للتواصل وكسب الزبائن وفق معاييرها ورغباتها الخاصة.
فإذا كان الجسد هو أجمل شيء في سوق الاستهلاك كما يقول بوديار “في ميدان الاستهلاك، هناك شيء أجمل، وأغلى، وأكثر سطوعا من كل شيء، وحامل لدلالات كثيرة بالإضافة إلى السيارة التي تلخص كل هذه الأشياء: إنه الجسد”. وهكذا ظل الإعلام الجديد يسهل على المرأة عرض جسدها لكسب أغلى الزبائن وأكثرهم ثروة، وهي تنتقيهم حسب معاييرها الخاصة.
ويضيف “ربما أن الصراع الاجتماعي يتمحور حول الجسد كأداة للاستهلاك، فإن المرأة توظف جميع إمكانياتها لتظهر في أبهى صورة، وهو الشيء الذي يجعلها تبحث عن التقاط أجمل الصور لجسدها لتمارس بها السلطة في حريمها الرقمي (والشيء نفسه ينطبق على الرجل).
الحريم الرقمي هو الفضاء الذي يسعى فيه الفرد لفرض سلطته ويبحث عن تحقيق متعة قصوى فيه وبواسطته
لقد أصبح الجمال بالنسبة إلى المرأة مطلبا مطلقا. فأن تكون المرأة جميلة ليس من نتاج الطبيعة، ولا هو مضافا للخاصيات الأخلاقية، بل بالأحرى خاصية أساسية، إلزامية، تختص النساء اللواتي يعتنين بمظهرهن كما يعتنين بروحهن. فهو علامة للانتقاء على مستوى الجسد كما هو الشأن بالنسبة إلى الانتقاء على مستوى الشغل، وانطلاقا من هذا التصور للجمال كقيمة مطلقة، فإن “الجنسانية اليوم هي التي توجه إعادة اكتشاف الجسد واستهلاكه. ومطلب الجمال الإلزامي، الذي هو مطلب تقييم الجسد من خلال منعطف إعادة استثمار نرجسي، وما يتبعه من بعد إيروتيكي بمثابة تقييم جنسي”.
ويلفت إلى أن البحث عن المتعة كخاصية كانت تميز الحريم التقليدي، أصبحت محركا للعالم الرقمي الذي يبحر فيه الأفراد ويجدون فيه مجالا لفرض سيطرتهم وتحقيق رغباتهم والبحث عن الشركاء، إن الفضاء الرقمي، حيث تشكل المرأة حريمها، هو فضاء مركب تمارس فيه كل أشكال النصب والكذب وخرق المعايير الاجتماعية في إطار الصراع بين الجنسين، فما يميز المجتمع السري الافتراضي هو التشديد دوما على دور القناع والرياء، ذلك أن معظم الطقوس التواصلية تشمل الفرد العازب (فتى/فتاة) أو حتى بعض المتزوجين المنتسبين إلى حرية العازب ونزقه.
ويشير برلال إلى أن عدد مستعملي الإنترنت بالمغرب بلغ سنة 2012 ما مجموعه 15.6 مليون شخص، تتراوح أعمارهم بين 6 و74 سنة، غير أن الفئة العمرية بين 12 و24 سنة هي المهيمنة في استعمال الإنترنت، حيث تشكل 79.3 في المئة من مجموع أفراد هذه الفئة العمرية، تليها الفئة العمرية بين 25 و39 سنة بنسبة 60.5 في المئة وأخيرا تبلغ نسبة مستعملي الإنترنت من الفئة العمرية 40 سنة فأكثر 18.5 في المئة فقط. وهكذا يتضح أن “الجيل الرقمي يتحدد في جيل الشباب والذي يتواصل أكثر على الإنترنت. ويقودنا اهتمام هذا الجيل الرقمي بالإنترنت إلى التساؤل حول أثر هذا الفضاء الافتراضي على طبيعة العلاقات “بين مختلف المتصلين في الشبكات الاجتماعية، وخاصة أثر الفضاء الافتراضي كموضع لالتقاء الشريك”.
ويخلص إلى أنه “دخلنا في عصر جديد بقدر ما تفككت فيه المؤسسات والعلاقات الاجتماعية التقليدية، بقدر ما سهلت وسائل الإعلام الاجتماعي الرقمي البحث عن علاقات بديلة، ولعل الفرد لم يعد يبحث عن آرائه ويبحث عن إشباع رغباته. وسواء كان التواصل مبنيا على الخداع والكذب أو على القيم فإن عرضه واحد؛ أن يفرض الفرد سلطته ويبحث عن الاعتراف بكيانه الذاتي. والأمر لم يعد متعلقا بتحقيق المتعة اللحظية. ولذلك وجدت المرأة لأول مرة في التاريخ (كما الذكور) فرصة سانحة لتشكيل حريم رقمي يلبي احتياجاتها ورغباتها الشخصية، ليس بشكل مقصور على الفضاء الرقمي ومنفصل عن الواقع، بل كباب رئيسي للعزل والتصنيف والتفاوض الذي يعقبه الانتقال للواقع”.