لغة الجسد تختزل الواقع العراقي الراهن

يراكم المسرحي العراقي علي دعيم تجاربه في الفن الرابع عاما تلو آخر، فيصنع لنفسه هوية فنية تميّزه عن السائد والمألوف على مستوى المسرح العراقي وحتى العربي، فهو من المجددين في الطرح المسرحي وأساليب معالجته لقضايا من الواقع اليومي غير المنفصل عن روابطه التاريخية، بتوظيف الكوريغرافيا والرقص كعنصر أساسي في مجمل أعماله المسرحية التي كان آخرها بعنوان “إعادة ضبط المصنع”.
عرف الفنان العراقي علي دعيم بصفته مخرجا وراقصا مسرحيا، وسبق أن حصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان حقي الشبلي لثلاث دورات متتالية ونال العديد من الجوائز العربية، ولديه تجارب وأعمال مميزة في الرقص المسرحي خاصة في مجال “الدراما دانس” من بينها: “فوبيا”، “آنو”، “جيرك”، وعمله المسرحي “صفر سالب” الذي حصد جائزة أفضل إخراج مناصفة مع مسرحية “الأرامل” للمخرجة وفاء طبوبي من تونس في الدورة التاسعة عشرة لمهرجان أيام قرطاج المسرحية.
و”صفر سالب” عمل كوريغرافي قدم اللحظة الراهنة التي يعيشها العراق الذي غادره دعيم في العام 2005 متوجهاً نحو السويد، أين درس فنون الرقص واختص في الكوريغرافيا، وقد شارك في الكثير من المهرجانات الأوروبية، من بينها مهرجانات إسبانيا وهولندا وفرنسا.
وإذا كان العرض المسرحي تشكيلة من فنون مختلفة تبدأ من النص، ثم الرؤية الإخراجية، إلى أداء الممثل، وسط السينوغرافيا والإضاءة والموسيقى والأزياء، فإن كل هذه العناصر تتكامل لدى الفنان المغاير علي دعيم لتخلق لغة العرض المسرحي وإيقاعه الخاص، وهي لغة تتجاوز النص المكتوب، لغة ينحتها جسد الممثل في تواصله مع الجمهور.

المخرج علي دعيم في "إعادة ضبط المصنع" تألق مسرحيّا، في إسقاط واضح - ودون تأويل قسري - على واقعنا العراقي الراهن
وفي كل أعماله المسرحية التي صاغها فكرة وتأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وسينوغرافيا، يسعى ابن الرافدين ليقدم خطابه المسرحي الجمالي المجدد الذي يرتكز على لغة الجسد وفق الأنساق السمعية والبصرية والحركية، حيث كان جسد الممثل يمثل العلامة الأكبر، بل والعلامة المهيمنة على خطابه في كل العروض المسرحية التي قدمها وتميز بها، ليقارب بها مسرح الصورة بدلالاته المعروفة، وسط منظومة بصرية وإنشاء صوري متكامل للمشهد المسرحي عبر أدواته التعبيرية، بما ينطوي عليه من شمول وحيوية وتنوع وجمال.
وبعد نجاح عمله المسرحي “بوق إسرافيل” في مهرجان العراق الوطني للمسرح (دورة سامي عبدالحميد) الذي أقامته نقابة الفنانين العراقيين بالشراكة مع الهيئة العربية للمسرح في الفترة الممتدة من الأول إلى السابع من أغسطس الماضي، واصل علي دعيم مسيرة الاختلاف في عروضه المسرحية لاسيما في عرضه الأخير “إعادة ضبط المصنع”، الذي كان من إنتاج منتدى المسرح التجريبي في قسم المسارح بدائرة السينما والمسرح، والتي بدورها سعت باستمرار لاحتضان كل التجارب المسرحية المجددة.
وقدم دعيم في ديسمبر الماضي “إعادة ضبط المصنع” على خشبة مسرح الرشيد، وهو عرض كوريغرافي من تأليفه وإخراجه، وسينوغرافيا مصطفى الطويل، وتنفيذ الإضاءة مصطفى نبيل، والصوت كامل تتر، والإشراف الفني علي السوداني، وشارك علي دعيم في التمثيل أيضاً إلى جانب الفنانين: مرتضى علي، ومؤمل حيدر، ومهتدى باسم، وفكرت حسين، وأسعد ماجد، وسهيل نجم، وسط حضور جماهيري لافت طوال أيام العرض.
لقد قدم علي دعيم في هذا العرض الكوريغرافي رؤاه وتصوراته، مراهناً على أجساد الممثلين في صياغة الحركات والتكوينات والكتل التي حملت الدلالات والرموز والإشارات والعلامات، بالتعاضد مع بقية العناصر المسرحية التي تكرست في كل المساقات التعبيرية، ليتحول العرض المسرحي إلى نص أدائي مترع بالفعل الدرامي والذائقة الجمالية.
وكان البعد الكوريغرافي لهذا العرض المسرحي يتشكل عبر العلامات الحركية أو تَنوعات شكل الأداء، وحركة الجسد على الخشبة وفي إطار الفضاء المسرحي، وبما يرتبط بإيقاع العرض الذي كانت أيقوناته تتماهى مع محاولة الإنسان التخلص من الأفكار الجامدة والمتقولبة التي يفرضها عليه الآخرون، كي يبتعد عن أي تطور أو تقدم في حياته فيتحول إلى إنسان مسخ، وبما يسهم في خلق وتأثير التغريب الذي لم يلغ تصوير الواقع في إطار بِناء محكم لحكاية العرض الرافضة للتهجين والتدجين والأسلبة.
لقد حاول علي دعيم أن يبني العرض المسرحي على أسس المشاهد المفتوحة للتأويل، التي تلتقي مع فروع داخل المشهد مفتوحة هي الأخرى للتأويل، ليبعث رسائل وصوراً عدة ومعاني موجودة في البناء الدرامي للمسرحية، لكنها لا تنتهي نهاية مقفلة أمام المتلقي الذي يقرأ المشهد بوضوح.
ولا يهدف المشروع الفني المتواصل لعلي دعيم إلى ممارسة الفن لأجل الفن، بل يبتغي خدمة القضايا الوطنية والإنسانيّة وتكريس الفن لمعالجتها. لهذا نجده لا يحب الأشياء التقليدية في المسرح ولا ينساق إلا إلى التجديد والتجريب في المسرح لتكون الصورة أكثر تشويقا، أكثر انفتاحاً بالتفكير وبالمشاهد المفتوحة للتأويل.
حسناً فعلت دائرة السينما والمسرح حين قامت باحتضان وتقديم هذا النوع من العروض المسرحية، فمازال لوناً فنيا مظلوما في الفضاءات الثقافية عامة والمسرحية خاصة، ومن الضروري الاهتمام المتواصل به مع ندرة الفنانين المتخصصين الذين يجتهدون منذ سنوات من أجل تقديم أعمال حداثية ذات آفاق إبداعية تجريبية معاصرة، ومنهم هذا الفنان المبدع علي دعيم الذي عرف كيف يتألق في “إعادة ضبط المصنع” مسرحياً.. في إسقاط واضح -ودون تأويل قسري- على واقعنا العراقي الراهن.