لعبة الكاريزما.. تقنية تنظيمات التطرف في الاستقطاب والتجنيد

لا تزال آثار الظهور الدرامي المفاجئ لزعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادي عبر تسجيل مصور مؤخرا تخضع للتحليل من جوانب مختلفة، خاصة أنها كشفت عن أبعاد جديدة في لغة الكراهية والغضب. وهو ظهور أثار الجدل حول اللعب على سلطة “الكاريزما السياسية”، كأداة استقطاب بارزة. العلاقة بين الكاريزما والتطرف تبدو علاقة تكاملية، بعد أن اعتمدت الأنظمة الراديكالية عليها عبر تاريخها، كقوة مهيمنة لتحقيق مكاسب سياسية وانتشار واسع.
تتعدد الأسباب الاجتماعية المحفزة للإرهاب، أو الدافعة للأفراد العاديين للانخراط في أعمال عنف متعددة في مجتمعات مختلفة. وتطرح تساؤلات حول قدرة تنظيم راديكالي على غرار تنظيم داعش على خلق أنماط فريدة وجديدة من الاستقطاب والتجنيد.
يقدم طرح السلطة الكاريزمية أو صفات القادة الجذابة والمبهرة كإحدى الوسائل القوية مؤخرا التي تبناها داعش، وأضحت قوة متجددة للإقناع الأيديولوجي أو الاستقطاب. حيث كشف ظهور البغدادي في صورة الشخص الصارم، وهو يتحدث عن التحولات الإقليمية في السودان والجزائر وعن الهجمات الإرهابية في سريلانكا وبوركينا فاسو، عن تلك الرؤية مجددا ليوضح دور كاريزما القادة وتعزيزها في دفع التطرف لعوالم أخرى.
بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، ظهرت تكهنات متعددة حول أسباب صعود الإرهاب. وبات التركيز الدائم على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصفتها من عيوب النظام العالمي والفشل في إدارة العلاقات الخارجية بين الدول المعنية، بالإضافة إلى النشأة السلبية للمجتمعات الشرقية، لكن الدراسات العلمية لم تقدم نظرة خاصة لإمكانات الإرهابيين القادرة على صناعة أوجه غير مسبوقة من الإرهاب العنيف.
تظهر الكاريزما في صور كثيرة لدى القادة وتصبح فعالة عندما تتراجع السلطة التقليدية أو تنهار، كما حدث في أفغانستان غداة الاجتياح الأميركي. ويمثل أسامة بن لادن منذ ظهوره القوي بعد عام 2001 أحد وجوه الكاريزما المتطرفة، حيث اعتمد على مكوناتها المرتبطة بالخطابة واستثارة المشاعر والعواطف.
ورغم عدم خلو خطاباته المتعددة والكثيفة من التهديد والوعيد، إلا أن مفتاح شخصية زعيم القاعدة برز في قدرته على الولوج لأذهان كثيرين عبر جمل رنانة وكلمات رصينة مؤججة للغضب والكراهية، ومضى من بعده أيمن الظواهري متبنيا النهج ذاته، لكن بصورة أضعف لاسيما مع عدم امتلاك الأخير لمواهب ومهارات بن لادن الخطابية والتنظيمية.
ويقول آدم جارفينكل، وهو أكاديمي أميركي مختص بالسياسة في مجلة “ذي أميركان إنترست” إن علم السلوك الاجتماعي يقدم ثلاثة أنواع من السلطة الاجتماعية: السلطة القانونية العقلانية والسلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية.
ويوضح جارفينكل أن السلطة الأولى والثانية هما الأشكال الطبيعية لإدارة المؤسسات والمدن والبلدان. فالسلطة العقلانية هي المفتاح المحرك لنظم السياسة الحالية في الغرب عبر حكم الديمقراطية والليبرالية وتداول السلطة، أما التقليدية فتنبثق منها أوجه كثيرة من الحكم في بلدان الشرق، كحكم الملكية والدكتاتورية والهيمنة القبلية.
وتظهر الكاريزما كعامل ثالث أشد قوة في حالة تقديمه بصورة صحيحة، مثلما كان شكل البلدان المستقلة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وظهر في المنطقة قادة يتمتعون بكاريزما طاغية قادرة على تحريك الجماهير، مثل الكوبي فيدل كاسترو والمصري جمال عبدالناصر والهندي جواهر لال نهرو واليوغسلافي جوزيف بروس تيتو والغاني كيمي ناكروما وغيرهم. لكن سلطة الكاريزما سرعان ما انتقلت من أيدي الحكام إلى قادة على نطاقات أصغر وصنعت بؤرا صغيرة ولكنها مؤثرة، وأبرزها العنف التكفيري.
يتبنى داعش تلك السياسة في إدارته لهيكله المتباعد والمترامي، وعلى النقيض من زعماء القاعدة، اعتمد قادة داعش في أدواتهم السياسية على كاريزما القوة والهيمنة. وهي وسيلة برزت مع زعيم القاعدة في العراق أبومصعب الزرقاوي الذي برز قويا وعنيفا عبر أشكال مختلفة من الظهور الدرامي الذي يوحي بصدام قريب ونهاية مدوية لأعدائه.
ومضى على نهجه بعد ذلك أبوبكر البغدادي متبنيا كاريزمية التخويف والإيحاء بقوة التنظيم ككل، بل اعتمد تلك الفلسفة في اختياره لقادة فروع التنظيم في أغلب البلدان، إذ تجمع لغة العنف والغضب والوحشية أغلب الخطابات والرسائل والأدوات الإعلامية لداعش، كما أنها صفة مشتركة بين قادة فروع التنظيم، وهو ما كشفته أدوات قادة داعش في مختلف المناطق التي مر منها التنظيم.
ومع كل الاختلافات الأيديولوجية والثقافية والجغرافية، إلا أن أبوبكر شيكاو زعيم جماعة بوكو حرام (الذي بايع البغدادي في العام 2015 ليصبح تبعا لذلك زعيم ولاية غرب أفريقيا)، وايسنيلون هابيلون قائد التنظيم في جنوب شرق آسيا وحافظ سعيد خان مسؤول داعش بأفغانستان، اتسموا جميعا بكاريزما الهيمنة عبر ظهور شحيح وخطاب موجه وصارم ونظرات حادة ووجه جامد.
ولا تتوقف الحدود الكاريزمية على الشخصية وملامح الوجه فقط، بل يمتد ذلك إلى الأداء والأجواء المحيطة مثل الظهور وسط ساحة قتال أو خلف حائط مدجج بالسلاح، وهي عناصر تساهم أيضا في توصيل رسالة التنظيم عن القوة والوحشية والاستمرارية.
ويركز التنظيم في فلسفة الاستقطاب على إقناع الشباب بالاعتراف بسلطة كبار السن والشيوخ، والإقرار بالمكانة والمعرفة والمنزلة الاجتماعية. ويمكن لهذه الأنظمة الثلاثة أن تعمل مع السلطة الكاريزمية بطريقة فعالة.
سلطة الكاريزما هي السلطة التي تحصل على شرعيتها من خلال شخصيات غير اعتيادية، قادرة على إلهام الولاء والطاعة في صفوف أفراد المجتمع ككل. وهو ما حاول داعش بلورته منذ ظهوره عام 2014.
ويرجع البعض ارتباط الكاريزمية بالتطرف لفترات أبعد من ظهور القاعدة، لاسيما مع شخصية مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، صاحب الكاريزما والصفات القيادية الطاغية والقدرة على التملص والإقناع والتداخل بين الدين والسياسة.
الاعتماد على الكاريزما ليس قاصرا على التطرف الجهادي، بل يرتبط بكل أشكال التطرف السياسي وينسحب حتى على اليمين الشعبوي في أوروبا
برز البنا في ثلاثينات القرن الماضي كرجل بسيط وقادر على جمع العامة حوله عبر لغة سلسة وأفكار تبدو في ظاهرها جذابة وعاطفية مبطنة بالشرعية الدينية. ورسخ البنا من بعده منهجا عمليا للاستقطاب عبر مدرسة تعتمد على الكاريزما السياسية حتى وإن لم يمتلك مرشد الجماعة تلك الصفات في أي وقت، فهو يستقي من منهج البنا وكلماته وسيلة لاستثارة المشاعر.
وبحسب جارفينكل، فإن الكاريزما ليست قاصرة على التطرف الجهادي وحده، بيد أنها ترتبط بكل أشكال التطرف السياسي كاليمين الشعبوي. وتتميز أشكال الشعبوية اليمينية واليسارية على حد السواء بوجود زعماء يتمتعون بالكاريزما، باستخدام عبارات صادمة وغير دبلوماسية إلى حد كبير.
لذلك يظهر أشخاص مثل زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان أو الرئيس الأميركي دونالد ترامب بكاريزما خاصة، وإن بدت أقرب لكاريزما ممثل كوميدي أكثر من رئيس دولة، لكنها في النهاية قادرة على تحقيق انتصارات سياسية ملفتة.
وكلما زاد الوعي الفكري لدى المواطن العادي انخفض تأثير سلطة الكاريزما، وهو بالتالي ما يطرح ارتباط جهل وضحالة فكر المتطرفين المستقطبين الذين تأثروا ومازالوا يتأثرون بشخصيات كبار الإرهابيين الرنانة.