لعبة القط والفأر تتجدد بين الطلبة والحكومة في البكالوريا

ميزانية ضخمة لحلول عقيمة في مواجهة غش الامتحانات بمصر.
الخميس 2023/04/27
حيل الغش تتجدد وتطور

يتجدد السجال في امتحانات البكالوريا كل سنة بين طلبة يتسلحون بطرق للغش والجهات المسؤولة في مصر للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وتستعد الحكومة هذه السنة لتعميم كاميرات المراقبة وربطها بالإنترنت ما اعتبره البعض طريقة مكلفة لميزانية الدولة ستنهار أمام تجديد الطلبة أساليب الغش.

القاهرة - عكس قرار الحكومة المصرية تعميم كاميرات المراقبة في امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) لمواجهة الغش وحالات الشغب التي تحدث من جانب بعض الطلاب، حجم الارتباك الذي تعانيه المؤسسة التعليمية واختزالها في مكافحة الغش وترهيب الممتحنين ووضعهم تحت الرقابة الإلكترونية طوال الوقت.

قال رضا حجازي وزير التربية والتعليم في مصر أمام مجلس النواب إنه ستتم تغطية مختلف لجان امتحانات الثانوية العامة في أنحاء الجمهورية بكاميرات مراقبة لرصد أية أعمال غش داخل اللجان وضمان التزام الطلاب بالتعليمات وعدم القيام بتصرفات تسهل عمليات الغش أو اصطحاب وسائل مساعدة له.

وهذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الحكومة إلى الاعتماد على كاميرات المراقبة في تأمين الامتحانات، لكنها كانت تفرضها في لجان محددة معروف أنها تشهد حالات غش كل عام بسبب ارتفاع كلفة تغطية كل لجان الجمهورية بكاميرات مراقبة، ورغم وجودها لم تسلم الامتحانات من الغش وتسريب الأسئلة على الإنترنت.

وقررت وزارة التربية العام الحالي تعميم الكاميرات على كل اللجان، مع أن الكلفة المالية الضخمة تتطلب من الحكومة توفير ميزانية خاصة للتعاقد مع جهة معنية بإجراءات التأمين لشراء الكاميرات وتركيبها وتوصيلها بشبكة إنترنت مركزية متصلة بوزارة التعليم لفرض السيطرة الكاملة على لجان الامتحانات البالغ عددها 26 ألف لجنة.

حيل جديدة

وائل كامل: هناك وقائع وشواهد كثيرة أوحت للشباب بأن الغشاشين حظوظهم أوفر إما تعليميا أو وظيفيا
وائل كامل: هناك وقائع وشواهد كثيرة أوحت للشباب بأن الغشاشين حظوظهم أوفر إما تعليميا أو وظيفيا

سوّقت الحكومة المصرية لكون كاميرات المراقبة ستحل أزمة الغش والتسريب في الامتحانات دون إدراك أن الطلاب لديهم حيل متطورة تمكنهم من الالتفاف على خطط الحكومة بطرق بسيطة وبعيدة عن أعين المراقبين والكاميرات الموجودة في اللجان.

ويلجأ بعض الطلاب في مصر إلى استخدام طرق متعددة للغش، أهمها الهاتف المحمول وسماعات الأذن متناهية الصغر بلون الجسد والحاسبات الآلية الصغيرة المستخدمة في حلّ مسائل الرياضيات والكتابة بحبر سري لا يظهر إلا بعد وضع قليل من الماء عليه، وهناك أيضا طباعة المعلومات على ورق شفاف ملفوف يوضع في أقلام مخصصة، بحيث يمكن فتح الورقة بسحبها من باطن القلم بطريقة مبتكرة.

وظهرت في العامين الماضيين طريقة مبتكرة للغش، تعتمد على نظارات طبية يستخدمها البعض، تتكوّن من عدسات في منتصفها كاميرا فيديو لا تمكن رؤيتها بسهولة، وفي نهاية النظارة قرب الأذن توجد سماعة لاسلكية متناهية الصغر، وعندما يقرأ الطالب السؤال تنقل الكاميرا ما يقرأه إلى شخص خارج لجنة الامتحان فيقوم بالبحث عن إجابات على الأسئلة، ثمّ يلقنها للطالب عبر سماعة الأذن المثبتة في النظارة.

وتبرهن الخطة الجديدة على أن الحكومة لم تقتنع بعد بصعوبة القضاء على ظاهرة الغش دون تشعب الحلول على المستوى التربوي والاجتماعي والقانوني والنفسي، لأن حصر المواجهة مع الغشاشين في أنهم يهدرون مبدأ تكافؤ الفرص من غير الاقتناع بأنهم يمثلون خطورة على المجتمع سيُبقي الظاهرة منتشرة.

ويرى متابعون للظاهرة أنه يصعب فصل ثقافة الغش بين الطلاب عن المناخ العام، لأن بعض هؤلاء المراهقين أدمنوا على الغش الذي أصبح من سماتهم الشخصية، وهو ما يدفعهم إلى ارتكاب الفعل دون أن يشعروا بتأنيب الضمير لأسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية وإعلامية كرست هذا السلوك المنحرف ليصبح من الأمور المباحة، كأن يتصدر المشهد، في أيّ مجال، أفراد لا يستحقون المكانة وهناك أجدر منهم، ما يجعل البعض يفكر في نجاح بلا جهد.

ويبرر بعض الطلاب لأنفسهم انتهاج سلوك الغش كجزء من البحث عن كسر هيبة المؤسسة التعليمية والتمرد على قوانينها التي طالما أثارت بداخلهم الإحساس بالذل والضغوط النفسية لغياب متعة التعلم والتعايش مع مناهج عقيمة لا قيمة لها، والاعتماد على معلمين أغلبهم يجيدون هواية جمع المال وترهيب الطلاب بالدروس الخصوصية، ومن ثم يصبح الانتقام من المنظومة برمتها حقا شرعيا.

متضامنون وشركاء

أقصر طرق النجاح
أقصر طرق النجاح

ما يلفت الانتباه أن بعض أرباب العائلات أنفسهم باتوا شركاء أساسيين في فرض ثقافة الغش بالقوة، فقد يصل الأمر إلى حدّ محاصرة لجان الامتحانات وترهيب المراقبين وتهديدهم بالسلاح، وهو ما يحدث كل عام في بعض المناطق الريفية والشعبية والقبلية، وعلى إثر ذلك يتهاون المسؤولون عن اللجان في ردع الغشاشين خوفا على حياتهم، وهو ما ترى معه الوزارة أن كاميرات المراقبة ستقضي على الغش.

وهناك الكثير من الطلاب يشرعون في الترتيب للنجاح بأقل مجهود مُقضّين في ذلك ساعات تفوق تلك التي يقضونها في المذاكرة ومراجعة الدروس، مع أنهم يعرفون أنهم من خلال الغش سوف يزيحون الأكفأ منهم ليأخذوا مكانه، لكنهم يبررون ذلك بتراجع جماعي للقيم والمبادئ، وإذا التزموا بالقواعد سيأخذ آخرون مكانهم بطرق غير مشروعة.

وبات الغش عادة مألوفة عند شريحة كبيرة من المراهقين والشباب في مصر، بل إنه صار يتم تصنيف من لا يلجأ إلى تلك العادة على أنه حالة شاذة واستثنائية، لأن السواد الأعظم من الطلاب يستسهلون النجاح غير المستحق، وابتكار أساليب غير معقولة وبعيدة عن خيال الحكومة، مع أنه في الماضي القريب كان هذا السلوك المعيب مقتصرا على فئة معينة من ضعاف المستوى.

والأكثر خطورة أن الغش أصبح في عقيدة الكثير من شباب مصر دليلا على الشجاعة والتحدي وتحطيم القيود أمام النظرة المتسامحة مع الغشاشين واعتبار أنهم ضحايا لنظام تعليمي ظالم وأسئلة تعجيزية ترغب منها الحكومة في انتقاء شريحة بعينها تلتحق بجامعاتها والباقي يلتحق بكليات استثمارية بمصاريف باهظة، وهي ثقافة تكرس الظلم الاجتماعي وضرب منظومة العدالة وتكرس أيضا اختفاء أصحاب القدرات والكفاءات لصالح الفاسدين.

الكثير من الطلاب يشرعون في الترتيب للنجاح بأقل مجهود مُقضّين في ذلك ساعات تفوق تلك التي يقضونها في المذاكرة ومراجعة الدروس
الكثير من الطلاب يشرعون في الترتيب للنجاح بأقل مجهود مُقضّين في ذلك ساعات تفوق تلك التي يقضونها في المذاكرة ومراجعة الدروس

وأمام تخاذل الحكومات المتعاقبة على مدار سنوات طويلة في التصدي لظاهرة الغش بحزم وصرامة ابتكر الشباب “براءات اختراع” في طرق وأساليب النجاح المزيف، ومع الوقت انهار الشعور بالإثم والذنب من سرقة الحقوق وتبدل الحال وأصبح الغش مصدرا للتباهي، ولا يخجل كثيرون من الاعتراف بالنجاح من خلاله أمام اقتناعهم بأنه مهما بلغت قوة الحكومة فإنها لن تستطيع مسايرة عقليات وخبايا خطط الشباب.

ورأى الباحث التربوي والأكاديمي وائل كامل، عضو هيئة تدريس كلية التربية في جامعة حلوان (جنوب القاهرة)، أن استسهال الغش في الامتحانات رغم وجود نصوص قانونية رادعة ورقابة مشددة يعكس غياب تحمّس الشباب للنجاح بالجهد لتحقيق طموحاتهم، وتنامي الشعور لديهم بأن المجتهد ليس له مكان، وكل الأشخاص يتساوون في نهاية المطاف، وهذه أزمة تتحمل الحكومات المتعاقبة الجزء الأكبر من مسؤوليتها، لأن هناك وقائع وشواهد كثيرة أوحت للشباب بأن الغشاشين حظوظهم أوفر، إما تعليميا أو وظيفيا.

وقال لـ”العرب”،  “ما دام الشعور بأن الشخص المناسب لم يعد في المكان المناسب والعلاقات أصبحت وسيلة للتوظيف والترقي، والشهادة الدراسية لم تعد لها قيمة وسط طوابير البطالة، والتعليم لم يعد وسيلة للارتقاء الاجتماعي، بل هو غاية تنحصر في الحصول على الشهادات فقط،… ما دام هذا الشعور متناميا فإن استسهال النجاح بالغش يصبح جزءا من ثقافة وعقلية المراهقين الجدد الذين يفتقدون للقدوة الحسنة ولا يعترفون بالرقابة والتهديدات”.

ويعتقد مراقبون أن تصدر أصحاب مستويات تعليمية متواضعة وشهادات جامعية مشكوك في نزاهتها المشهد الإعلامي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، أفقد الكثير من الشباب في المدارس والجامعات قيمة النجاح بالطرق الشرعية، والأمل في مستقبل أفضل إذا اجتهدوا وعبروا الامتحانات بنزاهة.

إعادة الاعتبار للقيمة

Thumbnail

المعضلة أن بعض المراهقين، رغم صغر سنهم، إذا سألتهم عن سبب اللجوء إلى الغش واعتباره وسيلة أحادية للنجاح تأتي الردود سريعة بأن الحكومة هي التي أهملت قيمة النجاح بالجهد والعرق والالتزام، وهناك الكثير من الخريجين الذين حصلوا على شهادات جامعية بتقديرات جيدة، لكنهم لا يستحقون ذلك، وبينهم من يتم تعيينهم في مؤسسات مرموقة.

ولكن الحكومة لن تستطيع القضاء على الغش في الامتحانات، إلا إذا اقتنعت بأنه عرض لأمراض خطيرة متجذرة في المجتمع، وطالما استمرت تلك الأمراض سيكون مستحيلا عليها القضاء على الظاهرة، سواء بالعقوبات أو بكاميرات المراقبة أو بأية خطط أخرى، لأن الغش لم ينشأ بين المراهقين من فراغ، إنما وجد في كل مكونات المجتمع تربة خصبة للنمو والانتشار والتمدد حتى أصبح المؤمنون به أكثر من الرافضين له.

وثمة مشكلة أخرى ترتبط بأن الكثير من الشباب يعتبرون التعليم عبئا ثقيلا عليهم ويبحثون عن الخلاص منه بأي طريقة، رغم كل ما تروج له الحكومة من إستراتيجيات لتطوير المنظومة التعليمية وإنفاق أموال باهظة على استحداث نظم تقييم وتصحيح جديدة للامتحانات والمناهج الحديثة، لكن ذلك لم يغير علاقة الطلاب بالتعليم الحكومي.

طريقة مبتكرة للغش تعتمد على نظارات طبية تتكوّن من عدسات في منتصفها كاميرا فيديو لا تمكن رؤيتها بسهولة

واستمرار مطاردة الحكومة للشباب من أجل تحجيم ظاهرة الغش بلا دراسة وتحليل عميقين والبدء في تذليل أسبابها تدريجيا سوف تكون له تأثيرات خطيرة وقد يتحول السلوك الخاطئ إلى ثقافة مجتمعية تدمنها الأجيال المتعاقبة بلا استثناء، وتدعمها بعض الأسر بذريعة تأمين مستقبل أولادها.

وأقر محمد مجدي، وهو طالب في البكالوريا المصرية، بأن الحكومات المتعاقبة هي التي زرعت في أذهان الشباب قيمة الغش، وعن ذلك يقول “نحن لم ننشأ عليه (الغش) أو نتعلمه إلا من خلال ظواهر مجتمعية ساهمت الحكومات في وجودها، لأنها عندما تقوم بطلب شباب للتوظيف تنظر إلى المؤهل الجامعي وليس إلى طريقة الحصول على الشهادة، حتى أصبحنا بلد شهادات لا مجهودات”.

وأوضح لـ”العرب”، وهو من الطلاب النابغين، أن الشاب في مصر يرى قيم الكفاءة تتلاشى لتحل مكانها العلاقات ودوائر النفوذ، ومن الطبيعي أن يسأل الطالب نفسه: لماذا أكلف نفسي عناء النجاح طالما أن التقييم الحكومي للطالب والخريج يعتمد على الشهادة بلا معايير أخرى تفصل بين مرتكب الغش والمتفوق، هذا الواقع لن تقضي عليه كاميرات المراقبة ولا عقوبات الغش ولا فتاوى المؤسسة الدينية التي تحرم سرقة مجهودات الآخرين وقت الامتحانات.

ومن الصعب تبرير فعل الغش، وفق مجدي، لكن ما يدور في عقول الشباب من آراء مرتبطة بأسباب الظاهرة يجب أن تكون له قيمة عند صانع القرار الذي يجب أن يسمع ويستطلع رأي الطلاب بمختلف فئاتهم ليتم وضع العلاج بأسس علمية أو على الأقل يشعرون بأن لهم قيمة بدلا من تباعد المسافات بين الطرفين ووصول العلاقة إلى الصدام والعناد والجفاء.

ومن مخاطر استسهال النجاح بالغش إفساد جيل كامل من الشباب، وهي أزمة لا تدرك الحكومة عواقبها، لأن طلاب المدارس والجامعات يمثلون القوام المستقبلي في أي مجتمع، وإذا كان الأساس منحرفا في التصرفات والسلوكيات وطريقة التفكير، فإن كل ما يتأسس عليه سيكون انعكاسا لهذا القوام المشوه.

16