لذة المديح وهواية التدليك مرض الجزائر

الشارع له من الذكاء ما يمكنه من الفرز بين الكذب والحقيقة وبين خطاب الفنتازيا والواقعية ولذلك فإن السلطة مطالبة بمراجعة نمط عمل المؤسسات قبل الذهاب إلى معاقبة هذا وذاك.
السبت 2023/09/30
البطانة تهوى تزوير الحقائق والتلاعب بالبيانات

أثبت اللغط الذي أثير حول تصريح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في الجمعية العامة الأممية الأخيرة، حول المياه المحلاة من البحر، أزمة أرقام وبيانات في البلاد، تعكس حالة غير طبيعية في إدارة الشأن العام، تبدأ من ذهنية استلطاف ما هو أعلى بدل تقديم الخدمة للمؤسسة، وتنتهي عند اعتماد سياسات الولاء بدل الكفاءات، وهو ما جرّ الدولة إلى معطيات لا تترجم الواقع وتسهم في توسيع الهوة بين الشارع والسلطة.

يبدو أن الرئيس تبون، انتبه أخيرا بعد مرور قرابة أربع سنوات من عهدته الانتخابية، إلى الانفلات المسجل في أولى مؤسسات الدولة، وبادر إلى إصدار مرسوم إعادة تنظيم رئاسة الجمهورية، بمركزة المهام والصلاحيات لدى مدير الديوان والأمين العام للرئاسة، بغية وضع حد لفوضى المستشارين والمكلفين بمهمة ومختلف كوادر المؤسسة.

والظاهر أن ورطة البيانات التي باتت تتكرر في خطابات الرجل، تركته وحيدا في مواجهة الحقائق أمام الرأي العام، خاصة بوجود كل ذلك الفريق وهو المكلف بتوجيه الاستشارة والنصح وتزويده بالمعلومات الدقيقة، لكن الظاهرة ليست حصرا على الرئاسة فقط، بل هي ذهنية متراكمة في مختلف المؤسسات وعلى مر عقود كاملة.

التحلي بثقافة الاعتراف وبالقدرة على مواجهة الحقائق والتحلي بالمسؤولية، هي مفاتيح ربح ثقة الشارع ونجاح النتائج، وما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت والجهد

هناك سلوك ترسخ داخل المؤسسات وفي أذهان الكثير من كوادر الدولة، وهو البحث عن إرضاء المسؤول الأعلى واستلطافه، حتى ولو كان بطمس الحقائق والتلاعب بالبيانات، لأن القاعدة السائدة هي الولاء السياسي والإداري، وليس إثبات الكفاءة والقدرة على أداء المهام، ولذلك فالظاهرة ليست سلوكا معزولا قام به هذا الكادر أو تلك المؤسسة، بل هي نمط شائع منذ عقود، وها هو الآن يجر رأس الدولة إلى الحرج.

الدولة في حاجة إلى الحقيقة والصراحة، والشارع له من الذكاء ما يمكّنه من الفرز بين الكذب والحقيقة وبين الصحيح والخطأ، وبين خطاب الفنتازيا والواقعية، ولذلك فإن السلطة مطالبة بمراجعة نمط عمل المؤسسات، قبل الذهاب إلى معاقبة هذا وذاك، لأن الأمر نال من سمعة الدولة ومن رموزها.

التحلي بثقافة الاعتراف وبالقدرة على مواجهة الحقائق والتحلي بالمسؤولية، هي مفاتيح ربح ثقة الشارع ونجاح النتائج، وما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت والجهد، فمن السهل عرض التقارير الزائفة والنتائج الكاذبة وحث الخطى أمام وسائل الإعلام، لكن من الصعب ربح رهان المصداقية التي هي رهان النجاح في سلم تولي المسؤوليات السياسية.

منذ اعتلائه قصر المرادية نهاية العام 2019، لجأ الرئيس تبون في أكثر من مرة، إلى مراجعة الكثير من المسائل والقرارات، ولم يظهر “المطبلون” توبتهم عن خطاب التضليل والدفع إلى الهاوية، فدأبهم الثناء والمديح لكل ما يصدر عن السلطة حتى ولو كان غير صائب، وعندما تظهر الحقيقة وتتم المراجعة لا حرج عند هؤلاء في الانتقال من النقيض إلى النقيض.

المسؤولية مشتركة في خطاب التضليل وطمس الحقيقة، بين سلطة سياسية جبلت على التلذذ بلغة الثناء والمديح، وبين فئة من المجتمع جبلت أيضا على لغة “التدليك الناعم”، من أجل التسلق في سلم المسؤوليات والمنافع الخاصة، وبين هؤلاء وأولئك ضاعت مصداقية المؤسسات ورموز الدولة، وتوسعت الهوة بين الشارع والسلطة.

ولم يحدث ذلك إلا بشيوع مبدأ الموالاة على حساب الكفاءات، وتراجع دور الإعلام والمعارضة السياسية في المجتمع، بسبب اختلال موازين بنية الدولة، بعدما اختارت السلطة لنفسها المؤسسات والأفراد الذين يناسبونها، وأبعدت مؤسسات وأفرادا آخرين، لاعتقاد سائد لديها هو أنه كل من يغرد خارج سربها تعتريه شبهات حول الولاء للوطن والتآمر عليه والتعاون مع آخرين.

طبيعة الدول والمجتمعات الحديثة تقوم على كل الأفراد والمؤسسات سواء كانت حاكمة أو معارضة، وعلى القيمة المضافة وقيم الصدق والصراحة، لأن الخلود للأوطان بعد الله، وليس للفئات التي تريد الاستئثار بالوطن

سؤال غائب عن المشهد، يتوجب طرحه عندما تظهر الحقائق، وتتم مراجعة قرار أو سياسة أو خيار ما، وهو من يحب الوطن ومن يحترق لأجله، ذلك الذي انتقد أو طرح رأيا مخالفا لأجل تلك الحقيقة، أو ذلك الذي مارس مهمة مدلكي الحمامات، وظل يجاهر بخطاب التضليل والكذب إلى أن وقع الاصطدام بالجدار؟

طبيعة الدول والمجتمعات الحديثة تقوم على كل الأفراد والمؤسسات سواء كانت حاكمة أو معارضة، وعلى القيمة المضافة وقيم الصدق والصراحة، لأن الخلود للأوطان بعد الله، وليس للفئات التي تريد الاستئثار بالوطن وتتهم الآخرين بما ليس فيهم.

الرئيس الجديد لاتحاد كرة القدم الجزائرية، صاحب 44 عاما، استطاع بتصريحات قليلة وبصور وتسجيلات محدودة، أن يكسب رضا كل هواة اللعبة، ويتمنى الآخرون أن يكون المسؤولون كوليد صادي، فبلغة بسيطة وصريحة ومعترفة بأورام الكرة المحلية، ترك الإعجاب ونال الارتياح الذي لم يحققه أسلافه.

ويبدو أن الرجل الذي سبر أغوار اللعبة وهو شاب صغير، خلص مبكرا إلى أن لغة الخشب والتقارير المغلوطة والتصريحات الكاذبة، لا يمكن أن تعالج الوضع ولذلك كان صريحا وصادقا في أقواله وأفعاله، فنال ثقة جمهور اللعبة، وأمنية كل الجزائريين في رؤية مسؤوليهم يخاطبونهم بالحقيقة حتى ولو كانت صادمة، لأن البناء الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا على أسس صلبة، وكل غش أو تزوير سيؤدي لا محالة إلى الانهيار.

قالها الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، قبل اعتلاء قصر المرادية في 1999، لما سأله الصحافي المخضرم المكمم سعد بوعقبة، في جلسة حميمة، عن سبب تغير الرؤساء، “المكتب يحجب عنك الحقيقة”، فكيف يكون الأمر إذا كانت سلاسل البطانة تهوى تزوير الحقيقة والتلاعب بالبيانات، الأكيد ستكون النتائج وخيمة، لأن الحمل يضطلع به رأس الدولة وحده، وسيغادر تحت أي ظرف من الظروف، بينما تبحث البطانة عن موقع جديد، ورغم ذلك كل اللوم للذي أشاع سياسة الولاء قبل الكفاءة وفضل لغة المديح على لغة النقد.

8