لبنان حكايات صور في عوالم جورجيا مخلوف

انطلاقا من حياة المصورة اللبنانية الشهيرة ماري الخازن، بنت الكاتبة جورجيا مخلوف عوالم روايتها "بلد مرير" لتثير تساؤلات مهمة حول مدى تغير مكانة المرأة في مجتمعات الشرق الأوسط، معتمدة المجتمع اللبناني نموذجا، ومركزة على لبنان كفضاء مكاني شهد الكثير من التغيرات على مدى قرن كامل من زمن المتن السردي بدأ في العام 1920 وانتهى في 2020.
انعكاسات بصرية طبعتها المصوّرة اللبنانية ماري الخازن في تفاصيل الرؤى التي تمكّنت من صياغتها الكاتبة والباحثة والصحفية اللبنانية المقيمة بفرنسا جورجيا مخلوف بين التوثيق والسرد، حملتها للحيرة وللتساؤل وللبحث عن أجوبتها في رواية أصدرتها مؤخّرا بعنوان، “بلد مرير Pays amer” والتي وقّعتها كما عوّدت قرّاءها ببصمتها الناقدة والرقيقة، الواقعية والحالمة، الحادّة والناعمة، بتفاصيل تبحث عن لبنان الأمان والبلد الخالي من عقد الشرق الباحث عن ذاته بين أنقاض الواقع ومجد التاريخ، مُسلّطة الضوء على واقع المرأة بشكل غير مباشر بسرديات عميقة وثقافة مميّزة وربط ذكيّ بين الشخصيات وتاريخها المليء بالنشاط والفعل والتحدي والتمرّد، حاملة لروح الفن في بناء الشخصية أسلوبا يسعى إلى تكثيف المعنى الحسيّ وعمقه الإيقاعي الموقّع بالأمل.
المُلفت في رواية جورجيا مخلوف هو ذلك الدمج البصري المسافر في لبنان بين أزمنته في تفصيل المجد الصانع لبنائه والواقع المتعمّد لتدميره بين سنة 1920 وسنة 2020، تقع شخصية المرأة على محك الأحداث، فبين منى الشخصية المحورية الشابة، المصوّرة الفتوغرافية الباحثة عن مكانة ومكان، وبين ماري الفوتوغرافية التي روّضت التاريخ على إيقاعات حادّة التمرّد، محاكاة حسيّة انفعالية تاريخية، الأولى تصارع لخروجها من الهامش والثانية صارعت لتبقى نقطة مضيئة في تاريخ لبنان.
فالتناوب في الأزمنة، والتوازي بين ممارسة التصوير الفوتوغرافي في بداية القرن العشرين، وذلك الأكثر معاصرة للراوية وكاتبتها، خلق الرنين الحاد في الأسئلة حول وضع المرأة في الشرق وفي لبنان بين انفتاح مغلق العقليات ومطالبات عقيمة بالانعتاق الحر في نديّة الحضور الحاضر في المجتمع، خاصة وأنها ألقت الضوء على تاريخ لبنان الغني والمٌعقد، العلاقة بين الكون والكيان بين الفن والممارسة الفنية، كوسيلة لترسيخ الذات في منطقة ما، وترسيخ المقاومة والوجود.
تقول “أشعر بخيبة الأمل إزاء قوة النضال من أجل حرية المرأة في القرن الماضي وما هي عليه رغم كل النضالات، تحرّرت ولم تتحرّر العقليات، تغيّرت ولم تُغيّر، جمود يقع على الحلم فيحبطه.”
حضور سردي مستتر
التصوير الفوتوغرافي في الرواية بدا كجسر بين عصرين إذ حاولت الكاتبة اللبنانية أن تقدم المرأة والبلاد على طبق النقد
بدا التصوير الفوتوغرافي في الرواية كجسر بين امرأتين وبين عصرين، إذ حاولت الكاتبة أن تقدم المرأة والبلاد على طبق النقد في أحداث الرواية حول لبنان وواقعه المهمّش في الداخل وصراعه المُرهق في الخارج، البلد الصغير الجميل المليء بالذاكرة، بالذكرى، بالخدوش، بالوجع، بالحياة، بالفرح، بالسخط، بالقفز على وجع اللحظة، بالفن، بالحرف، بالكتابة، بالإحساس، لبنان المتضخم، الممزق، الذي يعاني الفساد والصدام والتناحر والاختلاف، لبنان غير المستقر، وغير القابل للتغيير في نفس الوقت بسبب الأطياف الكثيرة التي تمثّله وتتجاذب لتملّكه.
“في البداية، كان لديّ مشروع مختلف تمامًا، كنت أرغب في كتابة رواية عن بيروت تكون الشخصية الرئيسية فيها هي منى، مصورة فوتوغرافية شابة متمردة، تحكي قصة المدينة من خلال عينيها وما تعيشه وترويه الكاميرا، لكن خلال معرض للصور الفوتوغرافية في بيروت، اكتشفت صورا لماري الخازن، فغيّرت الرواية مسارها الحكائي في دماغي وفي تفاصيل ما انتابني فخلقت داخلي بطلة أخرى لامست قلبي ووجداني وتعبيري عن المنطق الحر الناضج بحلمه وأخيلته في صور النساء اللاتي صنعن من لبنان وجهه الأجمل ماري الخازن، مي زيادة وغيرهن.”
شغلت ماري الخازن تفكير جورجيا مخلوف وتواصلت مع محسن يمين، جامع صورها، وتفاصيلها، صور فوتوغرافية قديمة، زوّدها بالكثير من المعلومات عنها، وقادها إلى اكتشاف منزلها الوحيد في زغرتا، قصر استثنائي مهجور بالكامل وهو الذي يظهر أيضًا على الغلاف الأمامي للرواية.
وحتى لا تكون رواية تاريخية وتخرج من أسلوبية السرد الروائي إلى السرد التوثيقي اختارت مخلوف أن تدمج الشخصيتين في شخصية واحدة بخيال منساب، مُستلهمة من ماري الخازن مذكراتها وذاكرتها المُصوّرة وما كُتب عنها وعن منزلها، فلم تقدّم الشخصية بشكل مباشر بل ابتكرت شخصيّة أخرى موازية بخيال أبعد يشبه عوالمها هي شخصية “ماري كرم” دمجتها مع منى البطلة حتى تحاكي بها ذاتها وتنطلق منها لتخرج من هوامشها التي فرضها الواقع اللبناني البائس عليها.
عندما تكتشف منى بطلة الرواية مذكّرات ماري كرم في بيتها المهجور تشعر بالاندماج معها في حكاياتها، تنشأ علاقة حسيّة أجادت مخلوف وصفها بين العاطفي والذهني والانفعالي من خلال قرن من الزمن تحاول كل منهما أن تثبت ذاتها حاملة نفس الرسالة وذات الشغف بالفوتوغرافيا.
تقول مخلوف “من الواضح أنه في عام 1920 لم يكن هناك مجال للحديث عن فتاة صغيرة تقضي وقتها في فعل أي شيء آخر غير انتظار الزواج، كانت ماري، التي أرادت تحرير نفسها وعيش شغفها بالتصوير الفوتوغرافي، تُعتبر عارًا لعائلتها، بالطبع، تطور المجتمع على مدار قرن، ولكن حتى في عام 2020، لم يزل الضغط الأسري والاجتماعي قويًا وسلطويا على المرأة، كما أن منى، التي اختارت مهنة تراها العائلة هامشية عاشت قصة حب خارج المسار المطروق (والتي انتهت بشكل سيء للغاية)، تتعرض أيضًا للنبذ من قبل عائلتها، والتهميش من قبل الناس. في زمن ماري انطلقت الحركة النسوية، قادمة على وجه الخصوص من خلال النهضة الثقافية التي كانت في مصر، قررت بعض النساء تحرير أنفسهن من قيود المجتمع الذكوري بالتعليم والخوض في الحياة الاجتماعية وامتلاك شخصية ثقافية ذات وجود ثابت ولا يحتاج وصايا ذكورية.”
نكتشف على مدار الرواية شخصيات نسائية ونسوية حاولت مخلوف دمجها لتثبت أيضا الريادة اللبنانية وتعيد ذكرها حتى لا يقصيها النسيان مثل جوليا طعمة دمشقية أول لبنانية رائدة في مجال الصحافة أنشأت مجلة المرأة الجديدة وكوّنت جمعيات مثل “تهذيب المرأة” و”الاتحاد النسائي”، وعنبرة سلام الخالدي وهي ناشطة نسوية وكاتبة ومترجمة وهي رائدة النهضة النسائية في الوطن العربي وقدّمت محاضرات متنوعة عن المرأة وحقها في التعليم، تجرّأت على خلع حجابها في العلن أثناء إلقائها محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت.
ذكّرت مخلوف أيضا بالفنانة كاميل كلوديل وحكايتها مع النحات الفرنسي رودان وعالجت بها ما يمكن أن يعترض المرأة المبدعة من تهميش، وكيف يكلّفها التماهي في الحب ذلك التهميش، بالتوازي مع حكاية مي زيادة وماري الخازن عندما لم تتمكن الأسرة من “إخضاع” روح متمردة، كانوا يعتبرونها مجنونة ويحبسونها، وهكذا وجدت ماري نفسها في “العصفورية” مستشفى المجانين.
إن لقاء ماري مع مي زيادة في الرواية لقاء خيالي، لكن تواريخ حبس المرأتين متطابقة فقد عادت مي زيادة بعد وفاة والديها وجبران خليل جبران الذي كانت تربطها به علاقة ثقافية أدبية حسيّة ومراسلة دامت أكثر من عشرين عامًا، من مصر إلى لبنان حيث اعتقدت أنها ستجد العزاء لدى ابن عمها، وبدلا من ذلك، أجبرها على التوقيع على أوراق تحرمها من الميراث، وسجنها في العصفورية.
وقد أهدت إليها كارمن بستاني مؤخرًا سيرة ذاتية موثقة بشكل مميّز ومنصف ويضيء على رحلة مهمة من العناد الحر والفكري والعميق.
بلد مرير وسحر سام
العلاقة بين منى وماري وبيروت علاقة تجمع بين التشابه والتناقض والاندماج والتوافق الحسي المبني على رغبة الكاتبة في الجمع بين التناقضات التي لا تلغي عن لبنان صفته الساحرة بمرارة، مرارة العاشق التواق إلى رؤية الجمال جمالا خاليا من التهميش.
تقول مخلوف “بما أنني أزور بيروت بشكل منتظم، فقد فوجئت بالتغييرات التي طرأت على المدينة خلال الأعوام القليلة الماضية، لم يتبق الكثير من تراث بيروت، الشوارع والممرات لم تعد موجودة، مدينة يُسمح لها بالتفكك ولا يوجد فيها تخطيط عمراني، تعمّها الفوضى ورغم كل هذا تتمتع بيروت بجاذبية مجنونة وسحر سام لا يمكننا الهروب منه، هذا الارتباط الذي لا يمكن اختصاره هو ارتباط غريزي يجعلنا نعشقها بمرارة “البلد المرير” هو مرارة مدينة تتفكك أمام أعيننا التي تحملها في الصور العالقة في ذاكرة مشتّتة بين المدن استذكار موجع.
فقد أرادت مخلوف من خلال الرواية أن تسلّط اهتمامًا كافيًا قد يؤدي إلى الرغبة في إعادة تأهيل بيروت ولبنان من خلال ذاكرة ماري الخازن، انطلاقا من بيتها المكان المذهل الذي أصبح الآن في حالة خراب، رغم أنه تحفة معمارية وتراثية، تقول “لماذا لا تقوم وزارة الثقافة بإعادة تأهيله ليصبح مكانًا للعرض وتدريب المصورين الشبان.”
إن ما ينتاب القارئ لرواية مخلوف هو تفصيل حسيّ يسافر عبر التاريخ ومنه إلى الحاضر الواقع على عاتق الحنين بألحان حادة وحزينة تحمل حساسياتها أبعد كمن يسمع نقر بيانو راخمانينوف ويتساءل كيف له أن يكف عن عزف الشوق بكل ذلك الشجن أو تسريب اللحن بين القلب والروح؟ بينما هذا الكتاب يزيد حيرة البحث في ورق الليل البارد، من الحمل المثقل بالبلدان المتعبة بذاكرتها المثقوبة. تسيل التجارب في الرواية وتتكاثف بين أزمنتها على إيقاع الصمت وتأمل الحقيقة في ليل من حنين كريستالي، وهي تعدّ ولائم الشوق في الأحاسيس المختلطة التي تنتاب الكاتبة ومنها الى القارئ، لتشحذ عقابها للمتمردين باللغة بالصورة بالفن بالحرية، هل نكتب وهل تُغيّر الكتابة فكرة الهامش المريرة؟ وكم مرّ من الوقت لم نكتب اللغة على صدر الصمت ونداعب وحشة الشوق وتأججه، بشمس الرؤية تقول البطلات في أخيلة مخلوف؟ هل تعاقبن الذاكرة لاقتراف اللغة الحقيقية عن الواقع الباحث عن انعكاسه الجمالي؟ وهل نقول لذلك الصدى في صمته، بين الصور المرتحلة في أزمنتها إن اللغة لقيطة دون مراقصاتها لإيجاز الخيال ومجازه؟ هذا ما تسرده مخلوف وهي تعرف أن الحكاية لم تكتمل بعد.