لبانة القنطار: الأوبرا فن مركب يقدمه العرب بطريقة خاطئة

الفنانة السورية لبانة القنطار: الغناء الأوبرالي يحتاج إلى خيال خصب.
الأحد 2021/03/14
لطالما كان صوت أم كلثوم يدهشني

تنحدر الفنانة السورية لبانة القنطار من عائلة لها روابط وثيقة مع الموسيقى العربية الكلاسيكية، فقرابتها العائلية بأسطورة الغناء العربي آمال الأطرش (أسمهان) وأخيها فريد الأطرش كانت لها الدور الكبير في مسيرتها الفنية وفي رسم طموحها لتحذو حذوهما وتشق لها طريقا خاصا بها تستلهم فيه، وتطور الفكرة الموسيقية التي أودعاها في أعمالهما، وتبلور رؤيتها الموسيقية الخاصة من خلال الغناء الأوبرالي. في ما يلي حوار مع الفنانة نتعرف من خلاله معها على تجربة ثرية موسيقيا وأكاديميا وإنسانيا.

لندن – منذ طفولتها كانت لبانة القنطار قادرة على غناء أصعب المقطوعات والقصائد الغنائية لعمالقة المؤلفين. وكانت فترة صباها الأولى غنية بمشاركات فنية عديدة عبر مهرجانات غنائية في داخل سوريا وخارجها.

يتميز صوت القنطار عندما تغني الألحان العربية برخامة وعذوبة صوت مليء بالشجن، بالإضافة إلى مساحة صوتية كبيرة إضافة إلى قدرة تعبيرية تمنح من خلالها زخما ورونقا للمقامات الموسيقية العربية المتنوعة والمعقدة. وقد كتب عن صوتها وتجربتها كبار الباحثين الموسيقيين العرب.

احترفت الفنانة الغناء الأوبرالي وأحرزت نجاحا منقطع النظير كأول مغنية أوبرالية في وطنها سوريا. ونالت العديد من الجوائز العالمية كالمركز الخامس في مسابقة الملكة إليزابيث عام 2000 والجائزة الرابعة في مسابقة بلغراد العالمية للغناء الأوبرالي، وجائزة الجمهور الأولى في المهرجان نفسه. وكان لها ظهور مكثف في عواصم أوروبية عديدة: بلجيكا، ألمانيا، فرنسا، هولندا، الدنمارك وإنجلترا.

بعد جولات موسيقية عديدة وإقامة طويلة في أوروبا، عادت القنطار إلى سوريا لتترأس قسم الغناء الأوبرالي، وعملت على تأسيس قسم الغناء العربي الكلاسيكي الذي اعتبر تأسيسه حدثا وطنيا لكونه وللمرة الأولى يُدرس الغناء العربي في أكاديمية متخصصة بفنون هذا الغناء وأساليبه وتقنياته.

أسست فرقة الغناء العربي التي كان أعضاؤها من طلابها في المعهد العالي للموسيقى، وقد قدموا تحت إشرافها العديد من الحفلات الناجحة في بلدان الشرق الأوسط.

وشاركت القنطار في أهم مهرجانات الغناء العربي، من بينها مهرجان الأغنية العربية في القاهرة (دار الأوبرا)، مهرجان قطر للموسيقى العربية، “مهرجان موسيقات” للغناء الشعبي والفلكلور في تونس، و”مهرجان المرأة تغني” في دمشق بدار الأوبرا، على مدى سنتين متواصلتين. وشاركت في “مؤتمر الموسيقى العربية (مبدعات)” في تونس للتحدث عن تجربتها الفريدة كأول مغنية عربية أتقنت الغناء الأوبرالي والغناء العربي، وتعتبر من الرائدات في عالم الموسيقى الأكاديمي العربي.

كما قدمت العديد من الحفلات الغنائية في الولايات المتحدة الأميركية بـ”معهد الدراسات الشرق أوسطية”، في واشنطن، حيث قدمت أمسية عرضت فيها مجموعة من الموشحات الأندلسية والقدود والأغاني الفلكلورية السورية، بـ”مسرح لينكولن”، في واشنطن، و”الكينيدي سنتر” المسرح العريق. ودعيت للغناء على “مسرح متحف الآغا خان” في تورونتو/ كندا في عمل موسيقي تحت عنوان “من سوريا مع الحب”.

واشتهرت في العديد من الحفلات على مسرح “الكينيدي سنتر”، والتي مزجت فيها الغناء العربي مع الغناء الأوبرالي في مجموعة أعمال سورية ومصرية وعربية. وشاركت مؤخرا في الحفل السنوي لجامعة الدول العربية في واشنطن.

وقد دعيت القنطار لتقديم حفل غنائي في “مكتبة الكونغرس”، في مشاركة هامة للتعريف بالغناء التقليدي التراثي السوري، بالتعاون مع قسم الدراسات الشرق أوسطية.

كان للفنانة دور بارز في العمل المسرحي المهم الذي قدم على مسرح شكسبير العريق في العاصمة واشنطن (سالومي) من إخراج يائيل فاربر (yaèl Farber) وقُدِّم العمل نفسه (سالومي) على المسرح الوطني البريطاني في لندن لمدة ثلاثة أشهر ومن خلاله قدمت الفنانة مزيجا من الغناء التعبيري مازجة الغناء العربي التراثي مع الغناء الأوبرالي بحوارية أغنت المشاهد التمثيلية للعمل المسرحي.

ومن أهم الأعمال التي قدمتها كان “ميوزيكال أم كلثوم” الذي قدمت فيه حياة أم كلثوم على شكل مسرحية غنائية، وقامت القنطار بتجسيد شخصية أم كلثوم وذلك على أحد أهم مسارح إنجلترا (بالاديوم) وتستعد حاليا لجولة عربية وأوروبية لعرض مسرحية أم كلثوم بعد النجاح الباهر للعمل في لندن.

وتستعد القنطار لمجموعة حفلات في الولايات المتحدة الأميركية مع الأوركسترا الوطنية العربية بقيادة الموسيقي مايكل إبراهيم، وهي مستقرة، حاليا، في العاصمة الأميركية واشنطن حيث كرّست معظم جهودها وحفلاتها الغنائية لمساعدة اللاجئين السوريين وللأعمال الخيرية، وفي هذا السياق عملت مع المنظمة غير الربحية “فري سوريا” (Free Syria) التي تساعد اللاجئين في كافة المجلات، كتعليم اللغة الإنجليزية من خلال دورات منتظمة، والفنانة ناشطة أيضا إلى جانب عملها الموسيقي في تمثيل اللاجئين في مؤتمرات دولية ومناقشات لشرح أوضاعهم والتحديات التي تواجههم في بلدان اللجوء، كما أنها عضو في أوركسترا اللاجئين العالمية، واشتركت معهم في حفلات عديدة أهمها في نيويورك وشيكاغو.

فن شامل

الجديد: ما هو هذا الشيء المسمى أوبرا، بالنسبة إليك، وما الذي يثيره فيك أنت الفنانة السورية في فضاء الغناء الأوبرالي استدعاء أسماء مثل ماريا كالاس وبافاروتي وأمثالهما من عمالقة هذا الفن؟

لبانة القنطار: ماريا كالاس، فإن كان سؤالك يقصد مثلا الاستفهام عن إمكانية وجود أمثالها في عالم الأوبرا اليوم، إنما هو يعيد إليّ الكثير من المحطات المذهلة في حياتي المهنية المليئة بالشجن والمفارقات والمصادفات.

لقد ارتبط اسم ماريا كالاس في ذاكرتي ببداية دخولي في عالم الغناء الأوبرالي. وكان للأستاذ صلحي الوادي الفضل الكبير في نجاحي وتشجيعي على الاستمرار، خصوصا عندما يلحظ ربما تلك النظرة التائهة التي تبحث عن أيّ تطمين بأن ما أقوم به هو ليس ضربا من الخيال أو الأمنيات.

أهداني مرة شريط كاسيت سجله لي خصيصا لأتعرف على مغنية عظيمة اسمها ماريا كالاس، وقد قال لي “إن نبرة صوتك قريبة من صوتها، اسمعيها باهتمام ولاحظي تلك القدرة التعبيرية الفريدة عندها”. كانت هذه العبارة من أهم ما حفزني على الاستمرار والمتابعة، لقد كان الأستاذ صلحي الوادي بالنسبة إلينا هو المرجع والأب الروحي للموسيقى والموسيقيين السوريين.

 

هناك أصوات ومواهب فنية هائلة، لكنها تعيش في بيئة غير حاضنة لهذا الإبداع، والأصح أنها طاردة له

الواقعة الثانية كانت عندما كنت أغني في كنيسة اللاتين بدمشق كجزء من مشروع تعليمي بين المعهد العالي والكنيسة المذكورة خصوصا وأن الكاهن (الأب لويس) كان مغنيا إيطاليا ومدربا للكورال الكنسي، فبعد أن قدمت أغنيتي بمرافقته على الأورغن، قال لي “إن صوتك يشبه صوت ماريا كالاس فلديكما نفس طبيعة الصوت الدرامية ومساحة الصوت والتعبير الغنائي”.

يومها شعرت بسعادة غامرة خصوصا أن هذه الشهادة آتية من مغن إيطالي وموسيقي مخضرم.

بعد ذلك، توالت الآراء والشهادات المشابهة من قبل مغنين عالميين وقادة أوركسترا عملت معهم، وأتذكر، الآن، بشيء من السعادة الاستثنائية ما صرح به المغني الكندي مارك أنطوان دراغون على إثر تقديمنا ثنائيا مشتركا من أوبرا “لا ترافياتا” من أنه شعر أن ماريا كالاس كانت إلى جانبه تغني. وقد صرح بهذه الشهادة أمام الجمهور بعد انتهاء الحفل الموسيقي.

الجديد: حدثينا عن تصورك الشخصي للغناء الأوبرالي، وعن مكانة وإمكانات حضور هذا الفن في ثقافتنا الموسيقية العربية؟

لبانة القنطار: الغناء الأوبرالي من حيث الحرفية هو أقصى درجات التعبير الصوتي، وهو، كما نعرف، مرتبط بالأوبرا التي هي فن مركب وجامع لذروة الفنون كالمسرح والشعر والرقص والموسيقى والتشكيل فمن خلال هذه الفنون العريقة واتساع شريحة المهتمين بها في أوروبا وانتقالها من النخبة إلى عامة الشعب، استطاعت الأوبرا أن تكون انعكاسا للثقافة والطموح وتطلعات الفكر الراقي بشموليته وجمالية تعبيره.

فمن تمازج الألحان الكنسية وأساليب أدائها مع المواضيع والنصوص الجديدة الدنيوية خلق هذا الفن. ولعل أهم ما يميز الغناء الأوبرالي، هو صفته التعبيرية، فمن خلال هذا الصوت يجري تظهير أبعاد الشخصية الدرامية التي تمثلها في العمل المسرحي الأوبرالي، وذلك وفق دراسة طويلة ومعقدة سوف أحاول تلخيصها هنا لكي يتلمس القارئ خطوات بناء المغني الأوبرالي على كافة الأصعدة وليس من الناحية التقنية فقط.

فالعناصر الأساسية لتقنيات هذا الغناء هي “الغنائية، اللفظ، التنفس، والسرعة في استجابة الصوت والحبال الصوتية” لكن كل هذه الأشياء لا تكفي، بل يجب استخدامها جميعا للعمل على موضوع الأداء الفني وتحقيق التعبيرية في الغناء الأوبرالي.

ونحن كلما استمعنا إلى ماريا كالاس مثلا، نلاحظ تحديدا هذه الصفة، والقدرة التعبيرية الرائعة والتي تسمى “بيلكانتو” (belcanto) وهي كلمة ايطالية معناها “الغناء الجميل ذو المهارات العالية”.

فهي لم تكن بحاجة إلى حركات جسدية مبالغ فيها باستعمال يديها وملامح وجهها لتشرح لنا الشخصية التي تمثلها، إنها تستطيع من خلال تحكمها بصوتها وغناء البيلكانتو أن تأخذك معها إلى صميم روحها.

على عكس بعض المغنين الذين يملكون أصواتا قوية ولديهم القدرة على التحكم الصوتي في الانتقال بين الصوت الخفيض (Piano) أو الطبقة المرتفعة (Forte) ولكنهم يغنون النوتات الموسيقية فقط، ويضيفون لها كلمات أو مقاطع، لذلك في كثير من الأحيان ينتقل المغنّي بين أغنية وأخرى من دون أن نستطيع تمييز الانتقالات، والسبب هو الاكتفاء بالغناء التقني الصرف.

يقول المغنّي الروسي العظيم فيودون شالابين إن “الغناء الأوبرالي يحتاج إلى خيال خصب”، فالمغنية التي لا تمتلك خيالا خصبا لن ينقذها شيء من العقم الإبداعي، لا الصوت الجميل ولا الشكل الجميل، فالخيال هو الحياة بالنسبة إلى الدور المؤدى، يجب أن تتخيله مغنية الأوبرا بخفة، حالة شبيهة بالواقع تبدأ بصورة عامة ثم تصبها في التفاصيل الخاصة وتعابير الوجه والسكتات.

إن الغناء الأوبرالي هو القدرة على الخلق فوق خشبة المسرح، هي القدرة لتحريك مشاعر المستمع عبر نقل تلك الصور التي تكوّنت على المسرح بكمالها الفني، ومرونتها وقوة الانفعال الداخلي لها، وتلك القدرة على الانتقال السريع من صورة الى أخرى في مختلف الأعمال.

المسافة الضائعة

الفنانة قدمت خلال العمل المسرحي (سالومي) مزيجا من الغناء التعبيري مازجة الغناء العربي التراثي مع الغناء الأوبرالي
الفنانة قدمت خلال العمل المسرحي (سالومي) مزيجا من الغناء التعبيري مازجة الغناء العربي التراثي مع الغناء الأوبرالي 

الجديد: كيف يمكن قياس المسافة بين الغناء الأوبرالي أو فن الأوبرا عموما والواقع والاجتماعي والثقافي العربي عموما من خلال الحالة السورية؟

لبانة القنطار: دعني لأشير هنا إلى مفارقة لافتة للانتباه. في عالمنا العربي هناك قدرات فنية وإمكانات هائلة في جميع المجالات. لكن ولأسباب متعددة هناك عقبات ومعوقات كثيرة غالبا ما تكون سببا في عدم ظهور الكفاءات والمواهب أو تحقيق نجومية كالتي يحصل عليها فنانون ‏‏ترعرعوا في بيئات تحتفي بالمتميزين وتأخذ بيدهم ليكونوا قدوة ومثلا أعلى للجيل الطالع.

الفنان العربي بشكل عام هو إنسان مثقل بالهموم التي تفوق قدرته، محبط، مشتت، يعيش في دوامة الفن من أجل الفن أو يبدو مطحونا تحت مقولة “الجمهور عاوز كده” حيث مؤسسات ثقافية ومسارح لا كفاءة لها وغير مهنية تسعى إلى تعويم الهابط على حساب المتميز. نعم هناك أصوات ومواهب فنية هائلة، لكنها تعيش في بيئة غير حاضنة لهذا الإبداع. والأصح أنها طاردة له.

لكن ومن جهة أخرى، فإن عالم الغناء مليء بالمبدعين والمتميّزين الذين يظهرون بشكل مستمر ويذهلوننا بمقدراتهم الصوتية وفنهم العظيم، خصوصا في عالم الأوبرا.

إن الأسماء الكبيرة في عالم الغناء العربي كأم كلثوم واسمهان وماريا كالاس وجون ساذرلاند وبافاروتي تستمد فرادتها من فرادة الظروف التي ظهروا خلالها، وخصوصية تجربتهم وامتلاكهم لمقوّمات جامعة لعناصر المغني العظيم، إنهم مكوّن فريد من الذكاء والحضور والقدرة التقنية والتعبيرية والجسدية مع الإبداع والخيال والإحساس، هذه المكونات قلما تجتمع كلها في شخص واحد.

الجديد: ربط موضوع الأوبرا بالحالة والاهتمامات الشعبية السائدة، هل تعتبرين أن فن الأوبرا سيبقى غريبا عربيا لاعتبارات سوسيو ثقافية؟

لبانة القنطار: من وجهة نظري إن الفنون المؤثرة عبر التاريخ الإنساني والتي شكلت دعامات وأساسات لأنماط متفرعة عنها جديدة ومبتكرة.. لم تأت لتكون حكرا على جماعة دون أخرى، أو مجتمع دون آخر، أو لغة دون سواها. وبالذات هذا الإرث الموسيقي الزخم من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية والأوبرات التي جمعت كل الفنون معا في عمل واحد درامي.

صحيح أن وجودها وتطوّرها كان نتيجة عوامل وطبيعة حياة ثقافية واجتماعية ودينية مختلفة، لكنها تبقى إرثا إبداعيا إنسانيا.

ما زالت المؤسسات الثقافية في أوروبا والعالم تعمل بخطط منظمة ومدروسة لجعل هذا الفن في متناول الجميع ليصبح شعبيا ومتاحا لجميع الناس والفئات العمرية والاجتماعية المختلفة. والملاحظ تدريجيا، أن ارتياد حفلات الموسيقى الكلاسيكية بات أمرا متاحا للفئات الاجتماعية المختلفة. ومما جعل هذا الفن أقرب إلى الناس ذلك الاهتمام المتنامي عبر الكثير من المبادرات التعليمية والعروض التي تمكن الجميع من الحصول على هذه الجرعة الراقية من الفن والإبداع، سأذكر بعضها من خلال ما خبرته شخصيا أثناء عملي في دور الأوبرا العالمية المختلفة.

لقد دأبت هذه المسارح على وضع يومين في الأسبوع ليتم فيهما عرض أوبرا مناسبة يحضره طلاب المدارس في منتصف النهار، حيث كانت لدينا عروض مخصصة لهم كل أسبوع.

يتم الاتفاق مع إدارات المدارس لتنظيم الحضور بشكل دوري. قدمنا العروض الأوبرالية في الهواء الطلق (مواقع أثرية) وتسنّى لأعداد هائلة من الحضور كل يوم على مدار أسابيع. قمنا بتخفيضات في أسعار البطاقات للطلاب والمسنين. وقامت قنوات تلفزيونية بعرض الأعمال الموسيقية والأوبرا ونقلها بشكل دائم على مدار أربع وعشرين ساعة.

ما أريد قوله، إن هناك إرادة وفعلا ومبادرات وتخطيطا مستمرا يتم العمل عليه لبناء الإنسان جماليا، فنيا، وحسيا. إنه عمل مؤسساتي بحت وليس عبارة عن مبادرات واهتمامات فردية كما يحصل في عالمنا العربي.

الجديد: ألا تعتقدين أن هناك صعوبات كبرى، إن لم يكن من المستحيل أن يتنشر فن الأوبرا عربيا فلأسباب تبدو أكثر من أن نحصيها، وربما من بينها غربة الذائقة الموسيقية الفردية والجماعية معا عن هذا الفن؟

لبانة القنطار: نحن لم نقدم هذا الفن وباقي الفنون العامة المؤثرة للناس بالطريقة الصحيحة الممنهجة والمدروسة حيث تختبر قبولهم أو رفضهم لها.

الكثير من الناس وربما في أقاصي القرى الصغيرة النائية سمع بموسيقى بيتهوفن “القدر” لأنها استخدمت كثيرا في أغراض إعلانية وترويجية لمواضيع مختلفة، لكنه لا يعرف أي شيء عنها! وهذا أيضا تسحبه على مقطوعة “إلى أليس” (For Elise) لبيتهوفن أيضا.

أو تلك الموسيقى الكلاسيكية التي استخدمت بعبقرية في الأعمال الكرتونية للأطفال “توم وجيري” (Tom and Jerry) فأصبحت شعبية يعرفها الصغير قبل الكبير لأنها كانت تعرض كل يوم ويستمتع بها المتلقي دون التفكير بأنها موسيقى غربية غريبة عن ثقافتنا ومسامعنا. إذن المشكلة ليست في المتلقي وإدراكه أو تقبّله، وإنما في تعوده على الاستماع وتقديمها بشكل مستمر ودائم، مع بعض الشروحات التي تقرّبه شيئا فشيئا من العمل الفني وظروفه.

السؤال هنا، لو كانت هذه الأعمال تقدم للأطفال في المدارس العربية كجزء من الدراسة والمنهاج التعليمي، كيف ستكون ذائقة هذا الجيل؟ المشكلة الحقيقية هي أن التربية الموسيقية الفنية الحقيقية غير متواجدة على خارطة البناء العلمي والثقافي للإنسان العربي بشكل عام، حتى في ما يتعلق بالثقافة الموسيقية المتعلقة بإرثنا الموسيقي الشرقي والعربي، فإنه لا يتم تداوله بشكل فعّال ومدروس ومهني. حيث تعطى الأهمية والأولوية في إذاعاتنا ومؤسساتنا الإعلامية والتلفزيونية، للأعمال الهابطة فنيا بكل معنى الكلمة.

محطات مهمة

الجديد: أرجو أن تضعينا في صورة المراحل التي مررت بها والمحطات الأساسية التي عبرتها منذ أن بدا لك الطريق واضحا، وقد صممت على سلك هذا الطريق في دنيا الفن الأوبرالي؟

لبانة القنطار: لم يكن الغناء بالنسبة إليّ يوما حالة ترفيهية أو موهبة أتمتع بها وأتحقق من خلالها. إنما هو تعبير بليغ وراق عن حالات وجدانية عميقة يجسدها ويعبر عنها المغني بصوته. هذا ما جعلني أنسجم بشدة منذ البداية مع الأغاني العربية الكلاسيكية التي وجدت فيها ذلك التماهي مع الكلمة وتكامل العناصر الفنية المتعددة. فبت منذ صغري أغني لأسمهان وأم كلثوم وعبدالوهاب وسعاد محمد.

لاحقا أردت أن أعمق فهمي للغناء بالدراسة والاحتراف. ولحسن حظي كان قد افتتح قسم الغناء في المعهد العالي للموسيقى. فكنت من أوائل المتقدمين له. لم يكن ما يعنيني هو غناء الأوبرا تحديدا. ما كنت أسعى إليه هو تعلم الغناء وتقنياته بحرفية عالية. ووجدت ما كنت أتخيله وألمحه منذ صغري، الغناء الذي يروي حكاية. حكاية درامية يكون فيها الغناء والتمثيل والشعر والموسيقى مجموعة إبداعية متكاملة. وأعني به فن الأوبرا.

بدأ تعلقي بالغناء الأوبرالي مع أول أغنية قمت بأدائها وهي “Tre Giorgio son Che Nina” للمؤلف الإيطالي كيامبي فينسينزو (???????? ??????) وبدأ صوتي بالتطور بشكل ملحوظ طوال السنوات الأربع التي درست خلالها مع المغنية الروسية خالديفا جالينا (?????? ?????????) حتى أن المايسترو صلحي الوادي دعاني للغناء مع الأوركسترا الوطنية السمفونية وأنا بالسنة الثانية في المعهد. ثم اشتركت في مسابقة بلغراد العالمية. وكان هذا أول احتكاك لي مع عالم الأوبرا الحقيقي خارج سوريا، 200 متسابق ومتسابقة من كل أنحاء العالم، وأنا الوحيدة من العالم العربي وكنت حينها في السنة الرابعة، وكانت المفاجأة أنني أتقدم في كل مرحلة من مراحل المسابقة حتى حصلت على المركز الرابع عالميا والمركز الأول باختيار الجمهور. كانت هذه المشاركة هي التي ثبّتت أقدامي في عالم الأوبرا. لكن من جهة ثانية أصبحت واثقة من صواب قراري وضرورة الاستمرار.

ارتياد حفلات الموسيقى الكلاسيكية بات أمرا متاحا للفئات الاجتماعية المختلفة. وهو ما جعل هذا الفن أقرب إلى الناس.

من المحطات المهمة أيضا مشاركتي بأول عمل أوبرالي في سوريا أوبرا “دايدو وإينياس” (Dido and aeneas) للمؤلف الإنكليزي هانري بورسل (Henriy Burcell) فعلى إثرها قرر المعهد البريطاني تقديم منحة دراسية لي في “Royal College Of Music in London” فكان لدراسة التمثيل والدراما أثر كبيرا في تشكيل هويتي الغنائية وإغنائها.

المرحلة التي تلت ذلك هي متابعة الدراسة العليا في هولندا بمنحة دراسية من الحكومة الهولندية، معهد ماسترخت (Maastricht conservatory) مع الأستاذة ميا بسيلنكي (Mya Besselink) التي رشحتني مباشرة إلى الاشتراك في أهم مسابقة عالمية للغناء الأوبرالي وهي “Queen Elizabeth International Competition in Belgium” إلى جانب عشرة مغنين من طلابها القدامى في ماسترخت، حيث بقيت أنا الوحيدة من طلابها في المسابقة حتى آخر مرحلة. وقد كنت المشاركة العربية الوحيدة في المسابقة وحصلت على مرتبة “Laureate” والمركز الخامس عالميا من بين مئات من المتقدمين للمسابقة.

مرحلة الاحتراف أتت بعد حصولي على هذه الجائزة. حيث دعيت إلى العديد من الحفلات مع أهم الأوركسترات العالمية. وقمت بتمثيل العديد من الأدوار الأوبرالية في أوروبا والعالم.

الفن والدكتاتورية

الجديد: ما هي أبرز المصاعب التي واجهتك في ظل حياة ثقافية سورية مهيمن عليها من المستوى السياسي ولا شيء فيها فنيا أو أدبيا أو فكريا يمكن أن يمر إلا عبر نظام الحكم الشمولي؟

لبانة القنطار: من أصعب الحقائق التي كان عليّ تقبلها والتعامل معها هي أننا في منظومة تعمل جاهدة وبكل وعي وتنظيم على تحطيم المتميزين ومحاربتهم وتهميشهم على حساب المتملقين والمدعين وأنصاف المواهب بل والفاشلين، هي خطة كانت وما زالت متبعة منذ انقلاب الأسد واستلام هذا النظام القاتل للحكم في سوريا، فعمد إلى تشويه التاريخ ومحاربة الوطنيين الأحرار والمبدعين في كل المجالات، الأدب والشعر والفن والموسيقى، لأن الفن هو أداة فاعلة في التأثير والتغيير، بل عمد إلى تعويم الحثالة لكي يتصدروا المشهد الثقافي ويتبوأوا المناصب التي من شأنها أن تخول لهم محاربة أقرانهم من المتميزين.

لقد اصطدمت بهذا الواقع الخطير والحزين عندما قررت أن أعود إلى سوريا بعد عملي لسنوات في أوروبا ونجاحي فيها، فكانت المنظومة العاملة في الشأن الثقافي والفني ومديريات الثقافة والمسارح والفعاليات والمعاهد والوزارات تعيث فسادا وهذا ما خبرته بشكل شخصي، لكن المفارقة المحزنة أنني قررت الاستمرار لفترة طويلة في محاولة منّي لزرع أساس غنائي موسيقي صحيح، من خلال قسم الغناء الأوبرالي وقسم الغناء العربي الذي كنت أستاذة فيهما، على مبدأ لا يصح إلا الصحيح، لكن يدا واحدة للأسف لا تصفّق، ومن السذاجة فعلا الاعتقاد بأننا نستطيع التغيير عندما يكون كل شيء من حولنا فاسدا.

منظومة الفساد

فنانة الأوبرا العالمية ماريا كالاس ساهمت بشكل كبير في تحفيز القنطار على الدخول إلى عالم الغناء الأوبرالي
فنانة الأوبرا العالمية ماريا كالاس ساهمت بشكل كبير في تحفيز القنطار على الدخول إلى عالم الغناء الأوبرالي

الجديد: هل لك في سياق هذه الإجابة أن تستعيدي بعض ملامح من تلك المرحلة الأليمة التي تراوحت حياتك فيها بين انعدام الأمل وذروة اليأس، ومتى جرى القطع بينك وبين هذه المنظومة الثقافية؟

لبانة القنطار: كثيرة هي تلك الوقائع المؤلمة التي حدثت معي أثناء عملي في سوريا أذكر أمثلة منها، كنت دعيت مرة لكي أكون في لجنة تحكيم عالمية للغناء الأوبرالي وبالتحديد في إيطاليا، وكانت الدعوة عن طريق وزارة الثقافة، لكنهم أخفوا الدعوة ولم يفصحوا عنها، وتذرّع وزير الثقافة آنذاك بأن الدعوة لم تصل إلى مكتبه! وطبعا لم أستطع الذهاب بسبب التأخر في التحضير.

لأول مرة في تاريخ سوريا تدعى مغنية أوبرا سورية للتحكيم في مسابقة عالمية لكن هذا لا يعني لهذه المنظومة شيئا لأن سوريا لا تعنيهم، في حين لم أكن من المرضي عنهم.

لقد خدعنا لفترة وجيزة، أو بالأحرى أملنا، ولو قليلا، في التغييرات التي كانت تطفو على السطح لكنني كنت أناقش دائما ما جدوى وجود دار للأوبرا بكل تلك التكاليف (التي نهب نصفها خلال بنائها الذي استمر عشرين عاما، وقبل افتتاحها بيومين افتعل حريق فيها لإخفاء الحقائق، ثم تمت إعادة بنائها مرة أخرى وسرقتها مرة ثانية).

ما الجدوى من وجود البناء الفخم دون تفعيل حقيقي للمسارح والفعاليات ووجود فرق فنية محترفة وموسيقيين محترفين؟ أصبحت هناك أكثر من عشرين فرقة مكونة من نفس الأشخاص لكن بأسماء مختلفة للفرق! كان موضوع الخبراء الروس من الموسيقيين المستقدمين من روسيا من بين أهم المشاكل التي واجهتني أثناء رئاستي لقسم الغناء الأوبرالي، كان أغلب هؤلاء الخبراء ممن هم دون المستوى، يأتون إلى سوريا ضمن صفقات متفق عليها تضمن لهم البقاء أطول فترة ممكنة، لكن مستوى ما يقدمونه من التعليم كان متدنيا جدا، وعندما اعترضت أكثر من مرة على خبراء الغناء الذين كانوا فعليا يسببون الأذى لأصوات الطلاب بتدريباتهم غير الحرفية وغير الصحيحة، (وهذا موضوع قد يخسر المغني صوته للأبد بسببه، أي إذا كان هناك جهد غير متوازن على الحبال الصوتية).

في النهاية، لم أستطع أن أفعل شيئا واتضح أن قصة الخبراء الروس هي أكبر مما كنت أتخيله، ولا يهم هنا أن نرفد طلابنا بمستويات رفيعة ليتحسن المستوى، ولا يهم أن نضيع مستقبل طلابنا بدراسة خمس سنوات يقضيها الطالب بتعلم تقنيات غير صحيحة، وربما في غالب الأحيان قد تنعكس سلبا على صوته وحنجرته.

ما كان مهما حقا هو تنفيذ سياسة تتعلق بمحاباة النظام في سوريا لأصدقائه الروس، على حساب المستوى العلمي، وعلى حساب الطلبة الذين غالبا ما كانوا يتضررون من هذه السياسة الإدارية الرعناء.

مواقفي المعلنة المعارضة لهذه السياسة وضعتني في بوز (فوهة) المدفع كما يقال، وجعلتني في وضع غير منتج، ولا هو بقادر على تصحيح أيّ خلل مما هو منتشر. أفضّل ألّا أستعيد تلك المساوئ التي سادت وكانت مصدرا للقهر، والألم للسوريين. أظن أن ما أنزله نظام الأسد بشعبه من فظائع بات مفضوحا لكل إنسان في العالم، ولم تعد بنا حاجة لاستعراض ما كان قد ساد الوسط الثقافي والتربوي السوري قبل الثورة من مساوئ ومفاسد، فما تلاها ينتمي إلى لغة الوحوش لا البشر.

حريتي في البيت

الجديد: كيف تقضين وقتك، وكيف تتكيفين في ظل الوضع الحالي، حيث الناس أسرى البيوت. يعملون ويستريحون ينامون ويستيقظون يتريضون ويسافرون في البيوت بين الغرف؟

لبانة القنطار: بيتي كان ولا يزال مملكتي. بطبعي أحب الاختلاء وأستمتع بالوحدة. في مساحتي هذه أجد نفسي وتركن روحي. لذلك أهتم بتفاصيل هذا البيت ليشكل حالة جمالية تعنيني وتؤثر في مزاجي اليومي. فتغدو كل النشاطات اليومية التي تبدأ بفنجان القهوة والرياضة والأخبار والفطور وتنسيق المنزل وترتيبه والطبخ والاستماع للموسيقى والقراءة والنوم. هي متعة حقيقية أتطلع إليها بحب وشغف. يعنيني جدا تآلفي وانسجامي مع مكونات منزلي. لذلك أنا في هذه المرحلة أعيش وأستمتع بشكل مكثف مع كل تلك الطقوس.

بتّ أستمتع أكثر بفنجان القهوة الصباحي. فاهتمامي وحواسي منصبة على التمتع برائحة القهوة ومذاقها، حتى بات هذا الفعل غاية في حد ذاته.

التواصل المهني في العمل بات له بعد آخر. فقدرة الإنسان على التكيف مدهشة. ما زلنا ننتج الموسيقى وما زلنا نغني ونعزف مع بعضنا. وما زلنا قادرين على مد جسور التآلف والتناغم حتى عبر الأثير.

من الأشياء التي تثري يومي أيضا هي تلك الأعمال الفنية التي أقوم بتحضيرها وتسجيلها في أستوديو المنزل. بمشاركة فنانين وموسيقيين من كل أنحاء العالم وكل في بيته.

فسحة للتأمل

الجديد: ولكن ما الذي تفكيرين فيه، بينما أنت في هذه الخلوة المديدة مع الذات؟ أين يسرح بك تفكيرك؟

لبانة القنطار: التفكير والتحليل والتأمل عناصر طاغية في شخصيتي وتكويني. لطالما شغلتني مواضيع وأفكار وجودية كبيرة. كنت ولا أزال أحاول، إيجاد أجوبة عن أسئلة كثيرة تراودني. كل شيء من حولي هو موضوع للبحث والتأمل. أفكر كثيرا في هذا السيناريو السوريالي الذي جعل سكان هذا الكوكب يلازمون بيوتهم في انتظار المجهول. وأخيرا توحد الناس على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وأديانهم وأنسابهم في مصير واحد.

لكن في الوقت نفسه أتساءل، هل سنشهد انقساما صارخا بين الأغنياء والفقراء، عندما يحصل الغنيّ على أفضلية للعلاج والأماكن والإمكانيات القليلة المتاحة لمواجهة هذا الوباء القاتل. أخاف من هذه السيناريوهات المرعبة. عندما يكون البقاء للأقوى فقط. إنما، ورغم أن ما خبرناه في حياتنا يؤكد ويدعم هذه النظرية لكن ما زال هناك بصيص من نور لقليل من العدالة، يبقي على توازننا ويدفعنا إلى الاستمرار في هذه الحياة التي تبدو لي أحيانا شديدة العبثية.

الحياة الحميمة

القنطار شاركت في أهم مهرجانات الغناء العربي
القنطار شاركت في أهم مهرجانات الغناء العربي

الجديد: أعود إلى السؤال السابق، وأسألك: ما الذي تغير في حياتك بشكل لافت للانتباه في ظل هذه الجائحة التي بدلت حياة الناس في الأرض على نحو دراماتيكي؟

لبانة القنطار: مثلا أشعر بالراحة كثيرا في هذه الأيام بخصوص التواصل مع الأهل. لقد بات التواصل الإلكتروني يوميا، جلسات طويلة تجمعنا جميعا بعد أن كان البُعد والعمل ومشاغل الحياة تأخذنا من أحبتنا.

الآن، ومع هذا الانقلاب الحياتي الشامل لكل شيء فها نحن ننكفئ إلى ذواتنا ومشاعرنا البدائية التي تبحث عن الدفء والأمان والعائلة. نتحدث عن كل شيء. ذكريات طفولتنا، بيوتنا، مناكفتنا لآبائنا، لهفواتنا الشبابية. نحاول أن نعوض ما فاتنا، نقرّب بعد المسافات بأسئلة تجعلنا أقرب إلى بعضنا. (شو طابخين اليوم؟) أسأل أمي أن تعلمني طبخة ما، رغم معرفتي بها. لكن أريدها أن تشعر أني ما زلت في حاجة إليها، وإني ما زلت أتعلم منها. وفي ختام كل مكالمة، توصيات وتوصيات نتبادلها جميعا: اهتموا بأنفسكم، وبصحتكم.

من جهة أخرى، كشفت هذه الجائحة عُري جميع الحكومات الإمبريالية والليبرالية، والشمولية القومية والدكتاتورية الفاشية والعشائرية الفاسدة التي استنفدت أموالها ومواردها وطاقات شعوبها في الحروب والأسلحة والسيطرة لصالح فئة قليلة، تمتلك هذه الموارد وتتحكم بمصائر الشعوب.

أقوى بلد في العالم يترنح بسبب نقص في الاستعدادات والإمكانيات. وبسبب إدارته الرعناء في التعامل مع هذه الكارثة، فما زال هذا الرئيس أو ذاك يراوغ كل يوم ويكذب على شعبه وعلى العالم، دون الاكتراث بأن العاقبة في ذلك هي أرواح ملايين البشر. هناك عِبر كثيرة.

للأسف رغم الأرواح الكثيرة التي ما زال يحصدها هذا الوباء. إلا أن الكارثة في هذا الكوكب كانت موجودة في كل تفاصيل حياتنا. ربما أتى هذا الوباء لنهدأ قليلا ونراجع أولوياتنا وأساليب حياتنا كلها، ولاسيما عندما يكون الموت متخفيا ومتاحا للجميع في أي لحظة وبأي مكان. أنت وحيد بكل ما للكلمة من معنى. أنت وهذا الكون. ربما يكون مصيرك في قمة الرعب. وربما يكون في قمة الجمال. لكن هل نستطيع الاختيار دائما، أم أننا في أحايين كثيرة بلا أيّ خيار؟

تجربة لندن

الجديد: كانت لك تجربة في لندن على هامش عملك الأوبرالي، وأعني بها تجربة مسرحية عن أم كلثوم التي عرضت العام الماضي، هل لك أن تضعينا في صورة هذه التجربة؟

لبانة القنطار: تجربة مسرحية أم كلثوم بالنسبة إليّ هي حدث مؤثر في حياتي المهنية. لطالما كان صوت أم كلثوم يدهشني. وكنت منذ طفولتي أصغي إليها بانتباه، وأحاول تلمس فرادة صوتها وتجربتها، وأبحث عن مواطن القوة والتميز في صوتها وأدائها. لطالما كان لديّ الهاجس لأعرف سبب تربعها على عرش الغناء. وأبحث في ما وراء ذلك الصوت القوي. النقاد اعتبروا أن قوة صوتها هو العامل الأهم في غنائها. وحاولوا سرد نظريات عن تكوين حنجرتها الفريد وما إلى ذلك.

لكني كنت دائما أرى ما هو أبعد من ذلك التفسير، ولاسيما عندما أستمع جيدا لتفاصيل دقيقة في تمثلها للأحرف والكلمة والجملة الغنائية واللحن. وكلما تعمقت بدراسة تقنياتها وأدواتها في الغناء كلما أدهشني تلك القدرة على جمع كل تلك المعارف والأدوات في شخص واحد.

لقد ساعدني فهمي لصوتها وشخصيتها وأدائها على تجسيد شخصية أم كلثوم وصوتها في هذا العمل، إلى درجة أن تفاعل الجمهور بدا لي أحيانا كما لو أنه صادر عن أشخاص يحضرون حفلا حقيقيا لأم كلثوم. واليوم أستعيد بحب كلمات الكثير من الحضور، وخاصة المصريين منهم، بأنهم للحظة شعروا أنهم رجعوا بالزمان إلى حفلات أم كلثوم. كان من المفترض أن نجول العالم بهذا العرض القيم، ولكن حالت الجائحة السارية اليوم دون ذلك. أتمنى أن نستعيد عافيتنا سريعا، وتمتلئ المسارح من جديد.

ينشر بالاتفاق مع مجلة الجديد الثقافية اللندنية

11