لا يوجد تولستوي في العراق

دجلة مثال عابر على غزو الطبيعة. لكن الجشع سبق غزو النهر. والفساد هو الوارث الوحيد له. وأحداث كثيرة صغيرة وكبيرة مرت وتمر على البلاد وسرديات الكتابة ما تزال ضعيفة. بل وبائسة كثيراً.
الخميس 2019/04/04
ننتشل جثثنا أولاً قبل أن نباشر بالكتابة

تعلّمنا الكتابةُ ما لم نعلم. وتعلمنا القراءة ما لم يكن بالحسبان عندما نستقصي حياة الأفراد والشعوب ونكساتها الفظيعة في الروايات والأفلام والقصص وبقية الفنون الجمالية.

يختنق القلم فيمضي إلى الورقة. وتختنق الأحبارُ فتتبدد على سواحل الكلمات سطوراً وخيالاً وواقعاً مضنياً. ويمكن أن نضيف أن الشجرة تختنق ببطء إذا ابتعد الماء عنها وشحّ. وعلى هذا التشكيل الإنشائي تختنق السماء فتمطر وتختنق الطيور المهاجرة عندما تمرُّ في سماوات الحروب والدخان. حينها يختنق النهرُ فيفيض ويجري سريعاً ويجرف معه كل شيء.

لكن عندما يختنق الهواء.. ماذا يحدث؟

دجلة في آخر جريانه ابتلع عشرات الأرواح التي خرجت إلى سردية نوروز ولم تعد حتى اليوم في قضاءٍ وقدر له خلفياتُ فسادٍ وجشعٍ وطمع، عبّارة الموصل، ليعلّمنا النهر حكمته القديمة وهو يجري منذ الأزل، بينما تقف سرديات الكتابة في حدود الفاجعة كما وقعت فتؤرخها بشكل حزين وبسيط ومباشر وربما ساذج من دون أن نعي قدرة الكتابة وهي تستوطن في تلك الكوارث الجسيمة. أو نعي أدوارنا الإبداعية في استخلاص النسق الفني الذي يعيد أي مأساة أو فاجعة عن طريق الكتابة الروائية والقصصية. لذلك.

نحترف الإنشاءَ بطريقة ماهرة، لكننا لا نقرّ بعجزنا في كيفية أن نستنطق الفاجعة ونحتويها إبداعياً من دون عويل ولا صراخ، فالآخر لا يهمه أن تبكي أو تمزّق ثياب الكتابة، بقدر ما يهمّه أن يطابِق بين الفن وبين الواقع ليعرف ماذا يعني الخيال السردي في الكتابة وكيف تقترب الواقعة من مصيرها الواقعي عبر الكتابة الروائية والقصصية.

نعالج الأحداث بانفعال من دون أن نتبصر خلاصات الجمال الفني الذي يقوم في أغلبيته على الخيال وعبور الواقع إلى مربعات سردية تغني الواقع وتثري خيال القراءة، فالوثيقة من شأن الباحثين، والإبداع من شأن المبدعين، وبين الأثنين مسافة طويلة من الجهد المتباين.

كتب تولستوي “الحرب والسلام” بعد اجتياح نابليون للأراضي الروسية، ولم يكن موثقاً أو باحثاً لتلك الحقبة، بل عمل على تحليل أحداثها بعقلٍ يقظ من النواحي السياسية والاجتماعية فكان بارعاً في انتقاداته للمجتمع الروسي في تلك الحقبة القاسية. لذلك ومع الشخصيات التاريخية المعروفة أدخل شخصيات ثانوية وأخرى خيالية لم تكن في رصيد الواقع آنذاك، ليقينه أن كتابة الواقع كما جرى لا تُنتج أثراً مهماً في الحرب والسلام، لذلك بقيت الحرب والسلام إلى يومنا هذا “وثيقة، إبداعية، فنية، جمالية” وشهادة كبيرة على تلك الحقبة.

منذ خمسة عشر عاماً مرّت على العراق كوارث وحروب وانتهاكات واستنزافات نفسية لا حصر لها، لكن لم يترك السرد الروائي والقصصي والشعري والمسرحي أثراً حتى اللحظة سوى توثيق بسيط وبائس في كثير من الأحيان.

لا يوجد في العراق تولستوي. وهذه حقيقة علينا أن ندركها ونستوعبها ونتعامل معها كتلاميذ في الكتابة. فالتسابق المحموم لكتابة عشرات ومئات الروايات والقصص لا ينتج تولستوي ولا ماركيز ولا تشيخوف. بمعنى لا يُنتج أعلاماً سردية تتعامل مع معطيات الواقع.

دجلة مثال عابر على غزو الطبيعة. لكن الجشع سبق غزو النهر. والفساد هو الوارث الوحيد له. وأحداث كثيرة صغيرة وكبيرة مرت وتمر على البلاد وسرديات الكتابة ما تزال ضعيفة. بل وبائسة كثيراً.

الأحداث الوطنية الكبرى تبتلع الكاتب عندما يكون ضعيفاً أمامها. لذلك فالشجاعة هي أن تتجاوز الزمن بطريقة حاذقة. والمهارة أن تستقطب الحدث من دون بكائيات عابرة.

سرديات دجلة في جسر الأئمة وعبّارة الموصل تفوق الخيال وتتفوق على الكتابة.. وإلى وقتٍ طويل.

 علينا أن ننتشل جثثنا أولاً ونغسل أوراقنا وأحبارنا.. قبل أن نباشر بالكتابة.

14