لا نملّ الدهشة من أنفسنا

“فلان يجمّر في البايت” أي يعيد تسخين طعام البارحة.. عبارة تونسية “ثقفوتية” تقال من طرف بعض المتصيدين والماكرين والحسودين لمن يعيد نشر ومشاركة ما كتبه سابقا على صفحات التواصل الاجتماعي بوجه الخصوص.
الرد المناسب الذي يغيظ أحد هؤلاء إن تعرض لك يوما، هو أن تقول له بكل بساطة: أنا لدي فائض من “البايت” كي أعيد تسخينه.. وأنت، أين قديمك؟
الحقيقة أن نفخ الجمر تحت قدور التراث المحلي والثقافة الشعبية النابضة بالحياة، أنفع بكثير من محاولة البحث عما نظنه جديدا وطازجا لدى من نشعر إزاءهم بعقد النقص وعدم القدرة على مواكبة العصر.
ما معنى أن تبحث في أنثروبولوجيا الشعوب، وتنبهر بحضارات ما وراء البحار ثم تزدري ما أنتجه أجدادك بدعوى أنهم تخلفوا عن مواكبة العصر.
ما معنى أن يعمد شاب -أو صبية- إلى رسم “تاتو” مستوحى من حضارة “المايا” أو “الإنكا” على زنده، في حين أنه لو نظر إلى وشم عجوز من قرية في بلاده لكان أقرب وأصدق وألصق وأوثق لذاكرته الشخصية.
وما جدوى أن أجهد نفسي كتونسي في دراسة ما يعرف بالأدب الإيروتيكي ذي التعبيرات الفضائحية النابية في العالم، وأهمل ما كتبه التيفاشي والنفزاوي من أدب جريء في بلادي منذ قرون عديدة.
وكذلك أن يبحث المرء عن جذور الفوضوية والعدمية، وقمة الاستهتار في المزج بين السياسة والجنس في موقف أخاذ تضمنته قصيدة الشاعر عبدالرحمن الكافي الشهيرة والمعروفة بـ”الملزومة” بدايات القرن الماضي، والتي ترجمت إلى الفرنسية وأصبحت فيما بعد أحد أهم بيانات الحركات الفوضوية في أوروبا عند تأسيسها.
ما فائدة أن ألمّ بالأدب والفكر الوجودي العالمي قديمه وحديثه، من كيركيغارد وسارتر وكامو، دون أن أمر بالقصيدة الآسرة للتونسي أحمد البرغوثي، والتي قالها يشكو حيرته بالعامية الجنوبية في عشرينات القرن الماضي “يا ريتني ما جيتش ويا ريتني من الأولة ما خشيتش.. لا شدني المخطاف لا شديته..”.
كيف السبيل إلى قراءة الألوان وروعة تناغمها بين المحيط الخارجي والعالم الداخلي في الفن التشكيلي، دون أن أدقق في نسيج الأغطية والملابس والبسط والسجاد في الأرياف والبوادي.
كل هذا يتحاور مع الأنغام والأصوات في بلاد أبهرت ألوانها دي لا كروا الفرنسي، وألكسندر روبتزوف الروسي، وبول كلي، السويسري الذي قال “قد تملكني اللون هنا”، وعاد ليتصالح مع فرشاته بعد غربة وطلاق.
إن بحث بعض مثقفينا من أيتام الثقافة الغربية عن ضالتهم، يشبه من يشير بيده اليمنى إلى أذنه اليسرى، ويكتشف طبق الكسكسي في المطبخ الأوروبي ليعيد تناوله بالشوكة والسكين.
نحن “نجمّر البايت” لأنه طيب ولذيذ، ولا نشبع منه لأننا صنعناه.. ولا نملّ أبدا من المتعة والإمتاع والدهشة والإدهاش.