لا ماء في وجوه الفاسدين وعلى المتضرر اللجوء إلى "تبليط البحر"

توريث المناصب لم يغب يوما عن أي تشكيل حكومي أو عن أي قائمة تعيينات في المناصب العليا في الأردن الذي يحكمه نظام ملكي ولا عجب في أن يتولى رئاسة الحكومة الجد والابن والحفيد.
الخميس 2021/11/18
خيط رفيع يفصل الإهمال واللامبالاة عن الفساد المقصود

خيط رفيع يفصل الإهمال واللامبالاة عن الفساد المقصود. ومثله خيط آخر لا يكاد يُرى بين سوء الإدارة وانعدام الثقة بالحكومات.

ما سمعه الناس وشاهدوه من داخل الجناح الأردني في معرض إكسبو 2020 دبي قبل أيام يمثل إحدى النوافذ التي تنفتح بين الحين والآخر على مواطن الإهمال في المؤسسات الحكومية، وكيف تصبح المعلومات البديهية عن بلد ما غير معروفة لدى من يُفترض أنهم يمثلون البلد.

“رام الله مدينة أردنية. والثورة العربية الكبرى انطلقت من سوريا وانتهت في اليمن”. هذه المعلومات المغلوطة التي ينكرها ويضحك عليها تلميذ مدرسة في الصفوف الأساسية، قدمها موظفون في الجناح الأردني لمراسل قناة فضائية أردنية.

حسب الدراسات والتقارير الصادرة عن مؤسسات بحث محلية وأجنبية، فإن الغالبية الساحقة من الأردنيين تعتقد أن أجهزة الحكم غير جادة في مكافحة الفساد والتقصير، وأن الحكومات التي لا تخلو برامجها من التعهدات الصارمة بمحاربة الفساد لا تزال محاطة بدائرة أصحاب المصالح إياها، المكونة من رجال الأعمال والأقارب والأنسباء والمحاسيب.

مع مرور الوقت تعمقت ممارسات الفساد ووصلت إلى قلب الدولة العميقة، حتى بات يُنظر إلى التنفيعات خارج القانون على أنها ساحة للتنافس بين المحاسيب وحقوق مكتسبة لأبناء وأقارب المسؤولين

الكل يريد أن يكافح الفساد والإهمال الوظيفي في الأردن، بدءا من الملك والحكومة ومرورا بالأجهزة الأمنية وديوان المحاسبة. لكن ما يحدث يعاكس ذلك تماما ويعكس “الحصانة” التي بات يتمتع بها كبار المتهمين بالفساد والتربح.

المناصب الوزارية والوظائف العليا في الدولة لا تخرج عن الطبقة الاحتكارية المعروفة التي تحتاج أحيانا إلى تعيين شخصيات من خارجها لاعتبارات المحاصصة المناطقية أو القبلية لكنها لا تسمح بتغيير التركيبة التقليدية المهيمنة على العمل العام.

مع مرور الوقت تعمقت ممارسات الفساد ووصلت إلى قلب الدولة العميقة، حتى بات يُنظر إلى التنفيعات خارج القانون على أنها ساحة للتنافس بين المحاسيب وحقوق مكتسبة لأبناء وأقارب المسؤولين، على قاعدة “ما حدا أحسن من حدا”.

وفي هذا يتذكر الأردنيون كيف أن وزيرا سابقا للثقافة بعث قبل سنوات برسالة علنية إلى رئيس الوزراء يحتج فيها على إنهاء خدمات ابنه وتعيين ابن رئيس الوزراء في “المنصب الذي يشتهيه”. وقال الوزير السابق والشاعر المعروف حرفيا إن “فلذات أكبادكم ليست أعز من فلذات أكبادنا”.

توريث المناصب لم يغب يوما عن أي تشكيل حكومي أو عن أي قائمة تعيينات في المناصب العليا والحساسة في الأردن الذي يحكمه نظام ملكي وراثي، ولا عجب في أن يتولى رئاسة الحكومة الجد والابن والحفيد.

في آخر المطاف تكتفي الحكومة وأجهزتها بالتبريرات المعهودة على اعتبار أن المستفيدين يمثلون “خبرات مميزة” أو “كفاءات نادرة” وأحيانا يكون التبرير أقل خجلا، فيقال إنهم أردنيون ومن حقهم تولي الوظائف العامة!

أما الرأي العام فقد اعتاد على الغضب الذي تتوقعه أيضا أجهزة الحكم وتمنحه دائما بعض الاهتمام المفتعل الذي لا يقدم ولا يؤخر. ولكن في النهاية، تبقى الحال على ما هي عليه، وعلى المتضرر اللجوء إلى “تبليط البحر”!

طوابير طويلة من الأردنيين الباحثين عن عمل في المؤسسات والدوائر الحكومية تراقب ما يجري وتمتلئ حنقا وتنجرّ إلى ما دون خطوط الفقر مع ضيق فرص العمل لدى شركات القطاع الخاص أيضا، في البلد الذي تبلغ نسبة البطالة بين شبابه حوالي خمسين في المئة.

ماذا يعني فقدان الثقة الشعبية بحكومة ما؟ لا يعني شيئا. ولا يؤدي إلى نتائج ملموسة. فالحكومات تعلم بأنها غير باقية وأنها سرعان ما يتم تعديلها أو تغييرها بصرف النظر عما يوجه إليها من انتقادات أو ما ترتكبه من أخطاء.

لا يمكن إقناع أي أردني بأن حادثة إكسبو دبي غير مرتبطة بدائرة أصحاب المصالح التي تضخمت خلال العقود الأخيرة إلى مستوى يراه الناس على صفحات الجرائد ومواقع التواصل، من التعيينات في المناصب الرسمية إلى عقود الشركات وما يرتبط بها من تنفيعات ومكافآت مالية.

الحكومة تعللت بضغط العمل في الجناح وأنهت التعاقد مع شركة الاستقبال المكلفة. وهذا واقعيا أقصى ما يمكنها فعله حتى لو كان الخطأ متصلا مباشرة بجغرافيا الأردن وتاريخه الحديث، خصوصا “الثورة العربية الكبرى” التي قادها الشريف حسين بن علي الجد الأكبر للعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وتمثل أحد مرتكزات الخطاب السياسي وشرعية الحكم في المملكة.

ما سمعه الناس وشاهدوه من داخل الجناح الأردني في معرض إكسبو 2020 دبي قبل أيام يمثل إحدى النوافذ التي تنفتح بين الحين والآخر على مواطن الإهمال في المؤسسات الحكومية

مع هذا، لن تكون مفاجأة لأحد إذا أعادت الحكومة التعاقد مع نفس الشركة للقيام بمهام مشابهة في معرض أو فاعلية دولية. وذاك ما يجعل الناس يتساءلون عمّن فوّض الشركة لتمثيل البلد في معرض بحجم إكسبو دبي، ومن هم المستفيدون، ومن سيتحمل المسؤولية عن هذه الكوميديا السوداء.

اعتاد الأردنيون على أن الإهمال أو التقصير لا تتبعه عقوبة أحيانا ولا مسؤولية حتى لو كان مرتبطا بحياة الناس وصحتهم.

قبل أشهر لقي ثمانية أشخاص حتفهم بسبب نقص الأكسجين في وحدات معالجة مرضى كورونا داخل مستشفى حكومي. وتنحى وزير الصحة آنذاك وركزت الحكومة على أنه لم يستقل بل أقيل، على سبيل تحميله المسؤولية عما جرى.

لم يمر وقت طويل حتى فاز الوزير “المعاقَب” برئاسة الجامعة الأردنية، أعرق الجامعات في المملكة، وهو منصب يُنظر إليه اعتباريا وتاريخيا على أنه أهم من مجرد حقيبة وزارية عابرة في البلد الذي يشكل حكومة كل سنة تقريبا.

8