لا قيمة أخلاقية للسرد إذ حين يغيب يصمت التاريخ

في كتابه “محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي” أعاد هايدن وايت إنتاج مفهوم التاريخ بوصفه سردية مجازية لها صور بلاغية أربع هي الاستعارة والكناية والمجاز والسخرية.
وما هذا التداخل بين السرد والتاريخ إلا انفتاح فكري، فيه السرد هو القالب الشكلي بينما المادة التاريخية هي المحتوى الذي سيصب في ذلك القالب.
وهذا القالب ليس مجرد تمثيل كتابي وإنما هو خيار أنطولوجي ومعرفي وأيديولوجي، ومن ثم لا يبقى أمام المحتوى إلا أن يطاوع الشكل ليصبح محتوى الشكل هو التاريخ مسرودا أو السرد مؤرخا. ولو عددنا المحتوى هو “ما حدث فعلا” فإن الشكل هو المحكي المحبوك بشكل محكم لما حدث.
معلوم أن أي مادة أدبية هي عبارة عن شكل ومحتوى، لكن إضافة أحدهما إلى الآخر، يعني تغييرا في القصدية الخاصة بكل واحد منهما. وقد اختار هايدن وايت في كتابه “محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي” إضافة المحتوى إلى الشكل بقصدية تغليب السرد كأسلوب على التاريخ كمحتوى، وهذا ما يجعل المعطى المعرفي المنتج هو السرد التاريخي.
قيمة لا أخلاقية
إذا كان هايدن وايت يرى الحدث فعلا تاريخيا وأنه يكون قابلا لسردين على الأقل، فكيف إذن ستكون “سلطة السرد التاريخي هي سلطة الواقع ذاته”؟
يذهب وايت إلى أن القيمة المرتبطة بالسردية في تمثيل الأحداث الواقعية تنشأ عن رغبة بجعل الأحداث الواقعية تُظهر صورة للحياة حيث قيمة السرد ليست أخلاقية وهذا ما جعله يتساءل هل نستطيع أبدا التسريد من دون إعطاء الدروس أخلاقية؟
من هنا سنفهم مقدار الانحياز عند وايت للشكل السردي في الخطاب التاريخي لا بوصف السرد نظرية أو منهجا وإنما بوصفه قالبا يمكن أن يستخدم في تمثيل الأحداث التاريخية التي هي وقائع تاريخية كتبها راو يحتمل أنه عثر عليها أو عاصرها أو سمع عنها.
ولذا يستبعد وايت أن تكون عملية الكتابة قائمة على محاكاة قصة معيشة في منطقة ما من الواقع التاريخي. وهذا الرفض للمحاكاة هو ما يسميه وايت “نمط الأطروحة في الخطاب التاريخي” كنوع من التهكم والانتقاد لطابع المحاكاة التلفيقي، بينما تعتمد النظرية التاريخية المعاصرة على السرد بوصفه الشكل الذي فيه يصب المحتوى التاريخي وهو ما تعبر عنه مقولة الفيلسوف بنديتو كروتشه “حيث لا يوجد سرد، لا يوجد تاريخ”.
وهكذا هي التواريخ منذ هيرودوتوس حيث السرد هو النظام الذي فيه يوضع المضمون، وهذا التصور يعطي للسرد مكانة مهمة في عملية نقل الواقع وتمثيله كمعطى إنساني كوني عابر للثقافات، وإذا كانت المواد التاريخية ثلاث هي الحوليات والإخباريات والتاريخ، فإن هايدن وايت لا يقبل إلا بالتاريخ واجدا فيه صفة سردية في حين تفتقر الحوليات والإخباريات إلى المكوّن السردي التام. والمحصلة أن الحوليات لا خلاصة لها بل هي ببساطة تنتهي عادة هكذا “مات الإمبراطور هنري وخلفه في الحكم ابنه هنري”.
وقد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن هايدن وايت استلهم إمكانيات السرد من طروحات الناقد أ. فورستر الذي فرّق بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، فالأول حكاية بسبب تتابعها الزمني والثاني قصة بسبب حبكتها المبنية على قانون العلة والمعلول.
وإذا كان فورستر المرجع النقدي المهم الذي منه استقى وايت الخطوط العريضة لنظريته، فان الفيلسوف هيغل هو المرجع الفلسفي الذي كثيرا ما كان وايت يأخذ عنه ومن ذلك رأيه عن التلاقي بين الخاصية التاريخية والخاصية السردية وان الذي يفهم ما حدث فعلا هو سرد لما حدث.
التاريخ الجديد
إذا كانت فلسفة هيغل تدعم بشكل غير مباشر التنظير لمحتوى التاريخ كفعل كوني فإن نقد فورستر يتسلل مباشرة إلى الشكل الذي فيه يضع وايت ثقته ليصل إلى ننتيجة مفادها أن التاريخ وصل إلينا كفعل تدخل إنساني إبداعي وليس فعلا كونيا وبهذا تخفق الحوليات بينما يقوى التاريخ.
وقد أدخل هايدن وايت الفيلسوف هيغل في هذه النظرية كونه أول من وحّد بين الجانبين الموضوعي والذاتي في فهم التاريخ، ولا سيما التاريخ السياسي الذي كان أغلب مؤرخي القرن التاسع عشر قد اهتموا بسببه بالأيديولوجيا.
والمؤثر الثالث في نظرية وايت هم الفلاسفة الفرنسيون المناهضون بالعموم للحوليات الذين أسسوا اتجاها هو الأكثر انتقادا للتاريخ التقليدي القائم على فكرة المحاكاة، ولا يذكر وايت من الفرنسيين سوى برودويل وميشيل فوكو وبول ريكور، بينما لم يشر إلى جاك لوغوف الذي تجاهله؛ ولا ندري لمَ؟
ولوغوف أهم المفكرين الفرنسيين الذي عملوا على إسدال الستار على الحوليات وإبدالها بتاريخ سماه “التاريخ الجديد”، وشاركه في العمل على هذا التاريخ جان كلود شميت وأفلين باتلاجين وجان لاكوتور وجان ماري بيساز وأرياس وميشيل فوفيل الذي أخرج التاريخ من الدهاليز إلى ما فوق السطوح وآمن بتداخل التاريخ مع مختلف ميادين العلوم مؤسسا تاريخ الذهنيات.
وأعطى هايدن لبول ريكور فصلا في كتابه موضع الرصد مركزا على نظرة ريكور للزمن والرمز في إطار فلسفة التاريخ وصلتها بالميتافيزيقيا السردية، وأن التاريخ والأدب يتشاطران مرجعا نهائيا بين الخطاب الوثائقي والخطاب التخييلي. وقد وصف وايت كتاب ريكور عن الزمن
والسرد بالعمل الضخم وأنه أهم تركيب لنظرية الأدب والتاريخ اُنتجت في القرن العشرين.
وينقل قول ريكور عن السرد التاريخي “إن المؤرخين السرديين ينبغي ألا يشعروا بأي حرج حيال التشابه بين القصص التي يروونها وتلك التي يرويها كتاب التخييل”.
وتعد تنظيرات ليفي شتراوس مؤثرا مهما في نظرية هايدن وايت التاريخية ولا سيما كتاب شتراوس “أسطوريات” الذي أفاد منه في إظهار مركزية السردية في هيكلة الحياة الثقافية، كما استلهم هايدن رؤية شتراوس الأنثرولوجية ذات الثلاثة وجوه التي تؤكد صعوبة التمييز بين المعرفة التاريخية والمعرفة.
والمؤثر الآخر الذي لا يمكن تغافله في نظرية هايدن وايت التاريخية هو رولان بارت صاحب مقالة “خطاب التاريخ” المنشورة عام 1967 التي وقف عندها وايت مطولا، بسبب ما فيها من هجوم على المعرفة المزعومة للتاريخ التقليدي وتأكيده أيضا أن التاريخ يمكن تمثيله بعدد من الأشكال المختلفة بعضها أقل أسطورية من بعض.
أما ما طرحه رومان جاكبسون عن الوظيفة الشعرية فإنه أضاف لهايدن وايت دفاعات جديدة عن السرد بوصفه شكلا للتمثيل التاريخي وظيفته تواصلية وليست تطابقية، وجاكبسون هو الذي جعل وايت يلحّ على التوصيل الذي قناته الفيزيقية هي الشفرات. أما وظيفته فهي “إزاحة الوقائع إلى أرضية التخييلات الأدبية أو إسقاط أحد أنواع التشكل الأدبي على وقائع بنية الحبكة” (الكتاب: ص 124).
ومثلما أفرد وايت لريكور فصلا فإنه أعطى مثل ذلك لميشيل فوكو ودرويزن وجيمسون.