لا سلم اجتماعيا في الجزائر دون حلول مؤلمة

الأزمة معقدة وكما هي بحاجة إلى جهد جميع الجزائريين لرسم خارطة طريق هي أيضا بحاجة للوصول بالمجتمع إلى حالة تضامن شامل شرط أن يتم توزيع الأعباء على الجميع بالعدل والقسطاس.
الجمعة 2022/02/18
نذر ثورة الجوع لاحت في الأفق

يُجمع قطاع عريض من المختصين والخبراء في الاقتصاد على أنه لا مناص في الجزائر من الحلول المؤلمة من أجل تحقيق نهضة اقتصادية حقيقية. ويأتي على رأسها ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، سواء تعلق الأمر بردم الهوة بين السوق الرسمية والموازية للعملة المحلية، أو إنهاء حالة الدعم الحكومي الشامل للمواد ذات الاستهلاك الواسع، وهذا الأمر لا يتحقق برأي هؤلاء إلا بميلاد حالة من التضامن الوطني، وسلطة حقيقية نابعة من إرادة الشعب.

ولأن طرف المعادلة الأول قد تحقق، في حين غاب الطرف الثاني، فإن الحالة التي تعيشها الجزائر هي مقامرة بالسلم الاجتماعي والاقتصادي. وإذا كانت السلطة أول الشهود على سلمية احتجاجات الحراك الشعبي، فعلى مدار عامين من المظاهرات والوقفات لم تتهشّم ولا واجهة محل واحد، فإن نذر ثورة الجوع لاحت في الأفق مع القرارات العشوائية للحكومة في التعاطي مع أزمة العجز في الموازنة العامة، واضعة بذلك البلاد برمتها على قرن ثور.

وجاء تقرير لجنة التحقيق البرلمانية الذي وجهت أصابع الاتهام فيه إلى وزارة التجارة بالوقوف وراء ندرة بعض المواد الغذائية كالزيت والحليب، ليؤكد تراكم مختلف المعطيات في الوضع الاجتماعي الذي وصلت إليه البلاد. لكن المسؤولية تبقى ملقاة على عاتق الحكومة، فهي عادة ما تتعمد الالتباس في تقديم تبريراتها للرأي العام، بدل أن تسعى لإقناعه بالحجج المطمئنة.

◙ الهروب إلى الأمام يبقى هو سياق النقاش السائد في البلاد، لأن التشريح الحقيقي للوضع الاجتماعي والاقتصادي يبقى مغيّبا عن القنوات الطبيعية، ولم يتم الاستماع للذين يملكون رؤية أخرى

صحيح أن العالم برمته يشهد موجة من الغلاء ناجمة عن إكراهات الجائحة العالمية، حيث ارتفعت أسعار النقل والتأمين وتراجع نشاط النقل، لكن ذلك غير كافٍ لتبرير فحش الأسعار في السوق الجزائرية، التي تنصهر فيها كل الممارسات السلبية من تهريب واحتكار ومضاربة وحظر استيراد المواد الأولية، وتراجع قيمة العملة المحلية، والإدارة البيروقراطية في تسيير الاقتصاد وتحول الدعم الحكومي إلى ريع تتصارع عليه اللوبيات.

وبين السوق وبين وزارة التجارة، لعبة “توم وجيري” حقيقية، بعبثيتها ولهوها، فأينما حل وزير القطاع حل معه الغلاء والندرة، وجاء قرار حظر بيع الزيت للقصر بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فبدلا من تقديم تحليل ومبررات للارتباكات التي تعيشها السوق، جاء القرار بمثابة استفزاز لمشاعر الجزائريين، لسببين: أولهما استحدث ما لم يحدث في الحياة التجارية واليومية للمواطنين، وثانيها قدّم صورة مشوّهة لواحدة من مؤسسات الدولة.

وللجبهة الاجتماعية في الجزائر تاريخ وتقاليد في ممارسات السلطة، حيث كان الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة يتعمد حرق أوراق المسؤولين والوزراء، بالإيحاء إليهم بخيارات اقتصادية واجتماعية مؤلمة. وعندما يتفاقم الغضب ويصبح الوضع على حافة الهاوية يأتي الرجل في ثوب “الأب الحنون، العطوف”، ويضحي بهذا أو ذاك في سبيل درجات في سلم الشعبية.

ويبدو أن الرئيس عبدالمجيد تبون الذي نهل من معين بوتفليقة، يسير على خطاه، فقانون المالية الذي كاد يفجر الوضع الاجتماعي وضعته حكومته التي عيّنها، وزكاه البرلمان الذي قيل عنه إنه أول برلمان في تاريخ البلاد تنفصل فيه السياسة عن المال، وصدّق عليه هو شخصيا، لكنه تراجع عنه بغية الظهور في نفس الثوب.

لكن السؤال الذي يبقى مطروحا إلى متى ستصمد تضحيات الحكومة أمام العجز المالي، وإلى متى سيصبر الجزائريون على سقوطهم الحر في بوتقة الفقر وشظف العيش، فقد عمد الأولون إلى سياسات شراء السلم الاجتماعي وتوزيع الريع يمينا وشمالا، ومع ذلك لم يسلموا من غضب الشارع، فكيف تتصرف السلطة الآن أمام الاحتقان المستشري مقابل شح الموارد؟

في الحالتين تبقى المعادلة غير متكافئة، فقد وزع بوتفليقة الريع، لكنه لم يبن طريقة حكم راشدة، فذهب المال وسقط هو، وهاهو الآن تبون يضحي بالتوازنات لكنه لم يفكر في السبل التي تصل بالمجتمع إلى حالة تضامن أفقي وعمودي للخروج من النفق، لينال هو بالتالي شرف وضع الجزائر على سكة الديمقراطية الحقيقية والإرادة الشعبية.

وبلغة الحسابات، تمت التضحية برقم معين من العائدات في سبيل الاستقرار الاجتماعي، لكن إلى متى ستصمد التوازنات في ظل اقتصاد عشوائي، وهل التمرّد الضريبي الذي كسر تقليدا مقدسا في الدولة، سيتوقف عند حزمة ضرائب ورسوم جمدت أو ألغيت، أم أنه سيكون اختراقا لحواجز أخرى تتجلى في أشكال ومضامين قد تفاجئ الجميع.

◙ تقرير لجنة التحقيق البرلمانية الذي وجهت أصابع الاتهام فيه إلى وزارة التجارة بالوقوف وراء ندرة بعض المواد الغذائية، يؤكد تراكم مختلف المعطيات في الوضع الاجتماعي الذي وصلت إليه البلاد

ومع ذلك يبقى الهروب إلى الأمام هو سياق النقاش السائد في البلاد، لأن التشريح الحقيقي للوضع الاجتماعي والاقتصادي يبقى مغيّبا عن القنوات الطبيعية، ولم يتم الاستماع للذين يملكون رؤية أخرى أينما كانوا في الموالاة أو المعارضة، ما دامت الأزمة مستفحلة، ومن حق الحكومة البحث عن إيرادات إضافية، ومن حق المواطن العيش الكريم وعدم التضرر من السياسات العشوائية، فلا بد من مقاربات أخرى.

وإذ عكس تصريح وزير الاتصال، الخط السياسي المرسوم في البلاد، عندما انتقد صحفا تحدثت عن “تراجع الحكومة عن خياراتها”، فإن الذي يغيب عن هرم السلطة، أن نفس الأذرع التي كانت تروج وترافع لصالح قانون المالية المشؤوم، هي نفسها التي تملأ البلاتوهات والصحف والمواقع للإشادة بقرار تجميد وإلغاء ضرائب ورسوم بقرار رئاسي تجاوز المؤسسات والنصوص التي أتت بذلك القانون.

الأزمة معقدة ومركبة، وكما هي بحاجة إلى جهد جميع الجزائريين لرسم خارطة طريق للخروج من المأزق السياسي، هي أيضا بحاجة للوصول بالمجتمع إلى حالة تضامن وطني شامل، شرط أن يتم توزيع أعباء الأزمة على الجميع بالعدل والقسطاس، ويكون رجالات السلطة في مقام القدوة في التنازل عن نصف رواتبهم للخزينة، وتفرغ الجميع لاستعادة الأموال المنهوبة أو استقطاب أموال السوق الموازية، وبفضلهما فقط يمكن تحريك دواليب الاقتصاد لو صدقت النوايا والأهداف.

8