لا سلاح يدمر الكذب إلا قول الحقيقة

من نظرية جوزيف غوبلز، “اكذب اكذب حتى يصدقك الناس”، إلى حكمة الحاج معزوز الجزائري، لما خاطب ابنه، “أخشى أن يأتي عليك يوم تتكلم فيه صدقا، لكن لا أحد يصدقك”، تتراوح خصلة الكذب بين المذاهب الأخلاقية والسياسية، كسلاح محرم لكن الكل يسارع إلى اكتسابه من أجل تحقيق تكافؤ الرعب.
نظّر غوبلز للكذب كوسيلة لتوجيه وصناعة الرأي العام الذي كانت تحتاجه النازية لتبرير حربها وإقناع الألمان بجدواها، فأسكت الكل من أجل أن يتكلم هو وحده، أملا في أن يسمح تكرار الكذب بصناعة الحقيقة، لكن للحاج معزوز رأيا آخر، فمشكلة الكذب أنها تقضي على صاحبها لمّا يريد التوبة عن خصلته، وخاف على نجله من ذلك اليوم الذي يريد أن يتكلم فيه الحقيقة، لكن لا أحد يصدقه، لأنه شخص كاذب.
الكذب بكل المذاهب الدينية والأخلاقية، خصلة منبوذة في المجتمعات البشرية منذ الأزل، لكنه لم يتوقف كممارسة اجتماعية وسياسية يومية، والأدهى من كل ذلك أنه تطور وتغذى من التطورات المتسارعة في العالم، إلى أن وصل إلى آلية توظف في أغراض وأهداف كبرى، فيكفي أن تحاك وتنمق كذبة ما لأن تهز أركان دولة أو مجتمع، خاصة في ظل وفرة وسائل ومنصات الانتشار.
وليس بعيدا أن يصبح الكذب جزءا من منظومة متكاملة تلقن في المدارس والمؤسسات المختصة، بعدما اكتسب صفة السلاح المدمر، بما أن مفعوله يشبه تماما مفعول السلاح الحقيقي الذي تبذل له الحكومات العدد والمدد وتجتهد للتزود به، وهو ما نراه حملات كذب موجهة، أشعلت فتائل أزمات إقليمية ودولية، وأسقطت على سبيل المثال الانتخابات الرئاسية في رومانيا.
مخابر الكذب بهذا الشكل ليست وليدة الطفرة التكنولوجية في عالم الاتصالات، بل تعود إلى عقود الأبيض والأسود، لما كانت خلايا معينة تضطلع بمهام صناعة الكذب والنكت المستهدفة لمعنويات العدو، ولا يستبعد أن تأخذ أبعادا مذهلة في المدى القريب والمتوسط، خاصة وأن التكنولوجيات الحديثة باتت تنتهك أدق خصوصيات البشر في أصواتهم، كما في صورهم وحركاتهم وسكناتهم، إلى درجة أن صار الشك ينتاب الفرد في نفسه، فيكذّب ذاته ويصدق منتوج الكذب.
يمكن للأفراد أن يكذبوا على بعضهم البعض، ويمكن للأنظمة السياسية أن تكذب على شعوبها، ويمكن لمخابر الكذب أن تغير توازنات وتطورات كبرى في العالم، لكن مشكلة الكذب أنه يحتاج ولو إلى قليل من الصدق من أجل بلوغ أهدافه، وإلا سقط صاحبه إلى الأبد، كما توقع الحاج معزوز لنجله.
بين القيمة الأخلاقية وبين النظرة البراغماتية، تجري معارك أزلية بين الكذب والصدق، كتلك التي تجري بين الخير والشر، لتبقى مشاكل الإنسانية منذ وجود الإنسان على هذه الأرض، هي هذه الخصلة المقيتة، فكان الكذب سلاح دمار للمجتمعات والأمم والحضارات، وتطور إلى أن وصل إلى هذا الشكل.
الكذب يخشى الصدق، ولذلك لا يتوقف عن تنميق وتزيين نفسه، لأنه يدرك أن نهايته ستحل ساعة انكشافه، وهو ما يؤرق الكذَبَة المحترفين في مواجهة المواقف التي تعري حقيقتهم أمام الناس، لأن الصدق عملة نادرة في عالم القيم وفي الفطرة الآدمية.
يمكن للكذب أن يحقق أهدافا معينة في زمانه ومكانه، لكن يبقى عدوه اللدود هو الحقيقة والصدق، وإذا احتاجت صناعته إلى حشد إمكانيات بشرية وتكنولوجية ضخمة، فإن مجرد قول الحقيقة يجعله هباء منثورا.