لا ذرات بعد اليوم
لأن الذرة هي أصغر جزء من العنصر الكيميائي وأصل كل الأشياء، ظل تركيبها وما يجري في عالمها بالغ الصغر، هماًّ شغل العلماء طويلا حتى أثبتت تجاربهم العملية أن لبعض الذرات نواة ثقيلة قابلة للانشطار والتحول إلى عناصر مختلفة قد تنتج كميات ضخمة من الطاقة الحرارية والإشعاعية.
كان قد مرّ زمن طويل منذ أن ابتلعت ذاكرتي معلومات مشابهة عن هذه المخلوقات الكيميائية أيام الدراسة الثانوية وأوصدت عليها باب النسيان، حتى أنعشتها، مؤخرا، متابعتي إعادة لمسلسل رمضاني تناول سيرة حياة علي مصطفى مشرّفة، عالم الرياضيات والفيزياء النظرية المصري، الذي لقب بـ”أينشتاين العرب” لنبوغه في الفيزياء النووية والذي حصل في العام 1924 على دكتوراه العلوم من جامعة لندن؛ وهي أعلى درجة علمية في العالم لم يتمكن من الحصول عليها سوى 11 عالما في ذلك الوقت.
اجتذبتني شخصية العالم الجليل الذي كان يصلُ الليل بالنهار موزّعا وقته بين التدريس في الجامعة وكتابة الأبحاث، من دون أن ينسى قضاء بعض لحظات استراحة في العزف على آلتي الكمان والبيانو اللتين أحبهما وأجاد رسم مشاعره على أوتارهما؛ فالعالِم الذي تحوّلت حياته إلى سلسلة من المعادلات الرياضية التي لا تقبل الخطأ، كان بارعا في تفتيت جمود هذا العلم بالثقافة والإطلاع والموسيقى ومصاحبة المفكرين أمثال طه حسين، وكان يرى في العلم “قصة رائعة تأخذ بمجامع القلوب، لأنها قصة واقعية حوادثها ليست من نسج الخيال”.
كان مشرّفة أحد القلائل الذين عرفوا سر تفتيت الذرة وحارب فكرة استخدامها في الحرب، كما نادى بتطويع الأبحاث العلمية لحل مشكلة الفقر. لهذا كانت حياته قصيرة، حيث أن ظروف وفاته التي أشيع بأنها جنائية بقيت غامضة حتى هذه اللحظة، لكن أصابع الاتهام أشارت إلى الموساد الإسرائيلي أو الملك فاروق الذي ضيّق عليه الخناق في حياته وأوصد في وجهه أبوابا كثيرة ومنها أبواب الرزق، من دون أسباب مقنعة.
سيرة العالم المصري ذكّرتني بعالم الذرة العراقي حميد خلف العكيلي الذي يحمل درجة الدكتوراه في الكيمياء الذرية والذي وجد يوما وهو يهيم على وجهه في شوارع بغداد، بثياب ممزقة ومتسخة وملامح يعلوها الغبار والهم الذي تراكم على روحه لسنوات لم يعد يتذكرها. ظهرت صورة الدكتور العكيلي في الصحف وهو يساعد بعض تلاميذ الجامعة في الشارع، كانوا لجأوا إليه بعد أن استعصت عليهم بعض مسائل الكيمياء الذرية، فكان حاضر الذهن لمساعدتهم!
عالم الذرة هذا كان أحد ضحايا التعذيب الجسدي والنفسي في سجون النظام العراقي السابق، أما الأسباب الحقيقية لذلك فقد أحاطها الغموض، وربما تكون الأسباب ذاتها التي استهدفت غيره من عشرات العلماء العراقيين بالاغتيال والنفي والتهجير. لا أعرف ماذا حلّ بالعالم العراقي العكيلي، وهل ما زال على قيد التشرد أم أن العناية الإلهية قد أنهت مهمته الحتمية على هذه الأرض بعد أن نال نصيبه من العقاب جزاء نبوغه.
الأمور مع مشرّفة والعكيلي شابها بعض الغموض وغلّفتها سحب الشائعات، لكن المؤكد في الحالتين أن أعداء النجاح أكثر من أعداد الذرات الموجودة في هذا الكون، وبأننا نمتلك تاريخا غائما كئيبا وحاضرا عاصفا قاحلا ولا من قطرة مطر واحدة؛ خسارات فادحة، مؤامرات، كره، حقد وانفجارات نووية.
“العلم في خدمة الإنسان دائما وإن خير وسيلة لاتقاء العدو أن تكون قادرا على رده بالمثل”، هكذا كان يؤمن مشرّفة بالعلم، لكنه علم لا يستطيع أن يتدارك الشر الذي يكمن في نفوس الأعداء، لا يمكن تشتيتهم حتى وإن انشطروا إلى الملايين من الذرات الحقودة. يبدو أن عالم الذرة مليء بالأشواك التي حذر منها الأستاذ حنفي في مسرحية “المتزوجون”، عندما صرّح بتخليه عن اختصاصه العلمي والاستعاضة عنه بمياه المجاري، فكان يردد مرغما: “لا ذرات بعد اليوم!”.