لا حل للأزمات في الأردن سوى التخلص من "ميرا"

إذا أراد المواطن الأردني أن يتدبر أمره هذا الشتاء في ظل ارتفاع أسعار المحروقات، وتفاقم الأزمات المعيشية والمالية على خلفية ما يحدث في المنطقة والعالم، فعليه أن يتخلص من رواية “ميرا” للكاتب الأردني قاسم توفيق.
هذا ما توحي به الضجة العنيفة التي أثيرت في البرلمان الأردني منذ أيام حول كتاب طُبع منذ ثلاث سنوات، ويتناول بين دفتيه أحداث رواية تدور في تسعينات القرن الماضي، بين العاصمة الأردنية عمان ومدينة نوفي ساد في يوغسلافيا السابقة.
◘ هل أصبح المثقف المبدع في بلادنا العربية أشبه بـ"الجحش القصير" الذي يمتطيه من هب ودب، ويحملونه مسؤولية كل الأزمات
هي قصة حب إذن، بين رعد الطالب الأردني وميرا الممرضة الصربية. تكللت بالزواج وأسفرت عن إنجاب شادي ورجاء يكبران مع أحداث اندلاع الحرب الأهلية في يوغوسلافيا في يونيو 1992، فيقرر الزوجان التوجه إلى عمان، ولكن بعد سنوات، يقدم شادي الذي كان تطوع مع جيش صربيا ضد البوسنة على طعن والدته بعد أن سمع من أناس وصفها بـ”المومس”.
قيل عن هذا الكتاب إنه يخدش الحياء العام ويتعرض للقيم العربية والإسلامية بسبب ما يتضمنه من إيحاءات جنسية وعبارات نابية من شأنها أن تهدد قيم المجتمع، لذلك يقتضي سحب الكتاب من التداول ومحاسبة كل من كان سببا في نشره.
وبالفعل، سُحبت الرواية من مختلف مراكز التوزيع في المملكة نتيجة لملاحظات وردت من بعض زوار مراكز البيع ومعارض القراءة للجميع.
وما طفقت الأزمة تكبر وتحتد عند مناقشتها تحت قبة البرلمان بالتوازي مع الأزمة المعيشية بل وأكثر أحيانا، حتى أن النائب الإسلامي ينال فريحات قال في مداخلته أمام مجلس النواب “هذه الرواية أساءت للأسرة الأردنية والقيم الأخلاقية في الدولة الأردنية”، وأضاف “يجب محاسبة كل من أجاز طباعة وتداول تلك الرواية المشؤومة المسماة ميرا ومن أجاز وجودها في مشروع مكتبة الأسرة”.
رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة، الذي تتخبط حكومته في أزمات تتعلق بالفساد، دعا وزيرة الثقافة الأردنية هيفاء النجار، التي طالتها سهام الاتهام، إلى “سحب جميع الأعمال التي لا تتوافق مع قيم المجتمع الأردني وعاداته وتقاليده، ومبادئ الأمَة وقيمها”.
قُضي الأمر إذن، جفت الأقلام ورُفعت الصحف، ولم يعد المواطن الأردني يعاني من غلاء الأسعار وشح المحروقات وتفاقم الفقر لمجرد أنه تخلص من رواية “ميرا” لصاحبها قاسم توفيق، الذي كاد الغوغائيون على مواقع التواصل الاجتماعي أن يحملونه مسؤولية انهيار الأسواق المالية وكل مظاهر الأزمات الاجتماعية.
أكثر من سؤال يطل برأسه على خلفية هذه الأزمة المفتعلة، والتي ينفخ إسلاميو البرلمان الأردني وبعض أعضاء الحكومة في رمادها.
أول الأسئلة هو لماذا لا تظهر مثل هذه المناقشات وتعلو حدتها إلاّ في الأزمات الاقتصادية المتعلقة بالفساد وسوء الحوكمة؟ ولماذا يتزعم الإسلاميون وحدهم الدفاع عن القضايا ذات الطابع الأخلاقوي كلما ضاق الخناق عليهم؟
ولماذا تثار مثل هذه الترهات كلما لمع نجم الفن والثقافة في بلد عربي ما مثل الأردن الذي ينشط فيه الأدباء والفنانون بشكل لافت وتقام فيه المعارض والندوات الفكرية ذات السمعة الدولية.
أما السؤال الأشد ألما هو لماذا يُستهدف المثقف وحده في الأزمات بينما يقع التعامي عن رموز الفساد ومافيا السرقة والتهريب وترويج المخدرات؟
هل أصبح المثقف المبدع في بلادنا العربية أشبه بـ”الجحش القصير” الذي يمتطيه من هب ودب، ويحملونه مسؤولية كل الأزمات أم أن الحكومات وبارونات الفساد والمتاجرة بالدين والمخدرات تستخدمه كشماعة لتعليق أوزارها وإلهاء الرأي العام.
الحقيقة أن “ميرا” لم تكن إلا ذريعة لتحويل الاهتمامات ولفتها نحو أجواء بعيدة عن الأزمات السياسية والاقتصادية كما يحدث لدى بلدان عربية عديدة، وإلا فكيف هذا التنبه المفاجئ إلى مسألة كانت نائمة أو فلنقل: في انسجام عميق مع محيطها، إذ استقرت رواية “ميرا” 3 سنوات كاملة في مكتبة الأسرة التابعة لوزارة الثقافة دون ضجيج، إلى أن التقط أحد ما نصوصا في تلك الرواية ونشرها، فتفجرت أزمة حادة شعبيا وبرلمانيا.
الأمر هنا يذكر بالقضايا “الأخلاقية” التي أثيرت حول مؤلفات عريقة وشهيرة ككتاب “ألف ليلة وليلة” في مصر، والدفع باتجاه طباعة نسخة “مهذبة”، وذلك “حفاظا على قيم المجتمع وحمايته من الانحلال” بعد قرون من وجود هذا الكتاب بيننا، وهو من ضمن الكتب التي نفاخر بها الأمم وتتباهى بها ثقافتنا العربية.
لا شك أن جهات داخلية وخارجية تعمل حثيثا على إصابة الثقافة في مقتل وتأليب المجتمع ضدها على اعتبارها الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة في بلدان مازال يحكمها “ثالوث العشيرة والغنيمة والعقيدة” كما يشرحه المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري.
ألا يخجل برلمانيون منتخبون من الشعب من إيجاد “الوقت المناسب” لمناقشة مثل هكذا قضايا، والبلاد تتلظى فوق نار الغلاء والصعوبات المعيشية والأزمات الاقتصادية الأخرى.