لأجلك اعتزلت الكذب

من يتعرف إلى "باس"، يستطيع بسهولة أن يصنفه بأنه مصاب بداء لا يشفى منه، ألا وهو الخيال المتورم وابتكار الحكايات الغريبة التي ينسبها لنفسه بل يصدقها ويتبناها.
الثلاثاء 2023/11/28
عندما ينفرد بمذياعه وموبايله و"سيجارته"

الـ”باس” تسمية تختصر الـ”باس بارتو” الفرنسية للإشارة إلى ذلك المفتاح العجيب الذي يفتح جميع غرف الفندق الواحد، ويستخدمه عادة كبار الموظفين وعمال الصيانة، لما له من حساسية أمنية فائقة.

أما “باس” الذي أعرفه شخصيا، فهو صديق آدمي من لحم قليل ودم خفيف، والكثير من الحكايات التي يصنعها خياله الجارف في الليالي التي يحرس فيها البناية مع مذياعه وسيجارته التي لا تنطفئ إلا باشتعال قصة جديدة في رأسه الصغيرة.

لُقب بهذا الاسم لقدرته على حل كل ما يعترض سكان البناية من مشاكل وإصلاح أعطاب وقضاء حاجيات.. إلا مشاكل نفسه، فلقد فشل في أن يستقر على كل مهنة بدأ بعشقها متحمسا ثم أدار لها ظهره بذات الحماسة.

من يتعرف إلى “باس”، يستطيع بسهولة أن يصنفه بأنه مصاب بداء لا يشفى منه، ألا وهو  الخيال المتورم وابتكار الحكايات الغريبة التي ينسبها لنفسه بل يصدقها ويتبناها إلى درجة أنها تصيبه عادة بنوبة ضحك أو غصة بكاء أو حتى باكتئاب لا يفارقه إلا بعد اختراع قصة جديدة مبهجة.

يحدث هذا عند منتصف الليل تقريبا، عندما ينفرد بمذياعه وموبايله و”سيجارته” في غرفته المخصصة للحراسة عند مدخل البناية المتنوعة بقاطنيها وزائريها.

شلال هادر من الحكايات الحزينة والمفرحة يرويها “باس” للمذيعة “حنين” كل ليلة، في برنامجها الإذاعي الشهير “أنين وحنين”، المخصص لطرح المشاكل النفسية والاجتماعية، ومناقشتها مع المستمعين المهتمين بالكثير من الجرأة والمصارحة.

يشكل هذا البرنامج الإذاعي فسحة المتعة الوحيدة لدى “باس” المتعلق بصوت المذيعة الأنثوي الآسر في ليل المدينة الثقيل.. وما عدا ذلك، مجرد لغو كما يقول، معبرا عن لامبالاته بعبارة “ما ليش دعوة” المصرية التي تعلمها من الأفلام المصرية التي أوجدت بدورها، “كاركتر البواب” الجامع بين الفطنة والكسل والحشرية والسذاجة، والحشيش.

يعرض “باس” على المذيعة ومستمعيها في كل حصة، مشكلة يدعي أنها حصلت معه، يربكهم في اقتراح طرق حلها ثم يخلد إلى سيجارته والتفكير في ابتداع معضلة جديدة لسهرة ليل الغد التي كثر متابعوها.

يستخدم “باس” أرقاما مختلفة ويتقمص أصواتا متنوعة في نوع من التمثيل الإذاعي البارع.. من يدري.. قد يُكشف من طرف المذيعة والفريق التقني المسؤول عن تأمين الاتصالات فيُمنع من المشاركات ويُحرم من متعته الوحيدة في ليل الحراسة الطويل.

ومهما يكن من أمر، فإن “باس” قد أدمن هذا السلوك الذي حوله إلى شغف يومي، وبدورها أدمنت المذيعة “حنين” مشاركاته التي حققت لها نجومية، دون أن تعلم بأنه هو المتصل بعينه.

مرت الأيام والأعوام، ولم تفرغ جعبة “باس” من الحكايات، إلى أن توقفت المذيعة عن عملها بسبب فقدان صوتها.

جمعت المذيعة حكايات “باس” في كتاب نشرته، لكن “باس” سكت عن البوح، وصناعة الحكايات لأنه لم يعشق إلا صوتها، ولم يبتدع كل تلك “الأكاذيب” إلا لأجلها.

18