كيف نشأت الموسيقى ما قبل التاريخ

علاقة الموسيقى بالفنون الأخرى هي علاقة وثيقة، وتتسلسل التيارات الموسيقية منذ عهد الأسقف بيروتان الأكبر الذي طالما كان يردد المنشدون أناشيده داخل الكنائس القوطية.
السبت 2018/09/29
الموسيقى البدائية على الرغم من وفرتها وتنوعها غاية في البساطة

هل يمكن دراسة الظواهر التاريخية الموسيقية بمعزل عن تطور المسائل الفنية؟ لقد بذل برنارد شامبينيول مؤلف كتاب “عالم الموسيقى” جهدا في إقامة نسب عادلة عند تصنيف الأحداث الموسيقية وبيان الأسباب العامة في حدوثها، وتسلسل الصلة بين مختلف الفنانين واستخلاص نظام للمؤلفات تتعاقب فيه، وتتسلسل بقدر ما تسمح به الحدود المرسومة لهذا الكتاب، الذي صدر في طبعة جديدة عن وكالة الصحافة العربية–ناشرون.

كما حاول شامبينيول من جهة أخرى وضع التراث الموسيقي المتعدد الأنواع في عصوره وبقاعه التي نشأ وانتشر منها، فضلا عن دراسته في ما أحاط به من تيارات فنية أو أدبية أو دينية أو سياسية.

ويقول المؤلف “لم نوجه هذا الكتيب للموسيقيين وحدهم وإنما أيضا لهواة الموسيقى ولمن يعنيهم أمرها. لهذا فقد تجنبنا الخوض في النظريات، كما تجنبنا أيضا الالتجاء إلى المصطلحات الفنية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.. وكما يمكن في عالم الآداب دراسة تراجم الأدباء ومؤلفاتهم بل والتاريخ الأدبي نفسه بمعزل عن قواعد اللغة ومصطلحاتها، كذلك الحال في الموسيقى، فرغم أن تاريخها يكون وثيق الصلة بتطورات المصطلحات الموسيقية الفنية، إلا أنه يمكن أيضا دراسة الظواهر التاريخية الموسيقية بمعزل عن تطور المسائل الفنية”.

دراسة الظواهر التاريخية الموسيقية
دراسة الظواهر التاريخية الموسيقية

إن علاقة الموسيقى بالفنون الأخرى هي علاقة وثيقة، وتتسلسل التيارات الموسيقية منذ عهد الأسقف بيروتان الأكبر الذي طالما كان يردد المنشدون أناشيده داخل الكنائس القوطية، ثم عصر لوللي الذي اتسمت موسيقاه بطابع فرساي في عهد لويس الرابع عشر، فعصر بيتهوفن الذي يمكن أن يعد الرمز الكامل للتحول نحو الحركة الرومانتيكية الكبيرة إلى أن نصل أخيرا إلى عصر سترافنسكي، ففي كل عصر تطابق للفنون، أيا كان نوعها، ونظام الفكر وطابعه اللذان يسير عليهما العقل الإنساني.

إذا رجعنا إلى الماضي الغابر ومهما ابتعدنا في الزمن لا بد وأن نلتقي بالموسيقى، نصادفها ولكننا لن نستطيع إخضاع صورها الأولى إلى البحث والتحليل، في حين أننا نستطيع أمام ما نجده من لوحات منقوشة من عمل الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ أن نقطع بأننا بصدد فن ما قبل التاريخ.

ومع ذلك يرى المؤلف أنه يمكننا أن نقطع بأن الموسيقى على غرار سائر الفنون وثيقة الصلة بها كالرقص والتمثيل الإيمائي والشعر والمسرح، تنحدر من أصل ديني. يقول المؤلف: “منذ نصف قرن درست موسيقى الشعوب التي لم يكن لها اتصال بالمدينة الأوروبية (وهم من يسمونهم تسمية تعسفية إلى حد ما بالبدائيين) كزنوج أفريقيا والهنود الحمر بأميركا والبولينيزيين وغيرهم… ويبدو أن نظريتنا الموسيقية تدين بأصولها إلى بعض قواعد فطرية عامة يشترك فيها كافة البشر، فتجد الموسيقى عند الأقدمين كما هي الحال عند ‘البدائيين’ بسيطة في أصولها وتتميز ببروز قوي في إيقاعها. كما أن طابعها يتسم بالمسحة الدينية ويتصل بطقوس معتقداتهم.

وتبدو لنا اليوم هذه الموسيقى البدائية على الرغم من وفرتها وتنوعها غاية في البساطة، إذ لا تسير الميلودية (الألحان) المشتملة عليها في انتقالاتها بأنغامها إلا في حيز ضيق من المسافات المقامية المحدودة فهي بوجه عام تقوم على أساس خماسي المقامات، بمعنى أنها توجد في حدود السلم الموسيقي ذي الخمسة مقامات وحسب، وهذا السلم الخماسي لا يزال شائعا عند الشرقيين.

ولكن الموسيقى الإغريقية هي وحدها التي استطعنا معرفتها عن طريق تحليل الشراح لنظرياتها. وقد كان للنظرية الموسيقية التي استنبطها فيثاغورس وتوسع فيها أرسطو ما أكسب الموسيقى مركزا خطيرا من الناحية الاجتماعية والخلقية، وقد اعتبر حينذاك أن الأنغام الصوتية على اختلاف أنواعها وكذلك طابعها المتنوع وصيغها المنفردة عامل من العوامل الفعالة في رقي الإحساسات وتنمية العواطف الإنسانية.

وقد أخذ الرومان عن الموسيقى الإغريقية غير أنهم نزلوا بها في التبسيط إلى مستوى العامة ولم يكونوا يولونها إلا دورا ثانويا في مجتمعهم فاستخدموها فقط كأسلوب من
أساليب الترفيه العامة فأفقدوها الكثير من مكانتها الرفيعة وصفاتها العالية في المجتمع.

15