كيسنجر في الصين.. هل هناك حل في الأفق؟

في ظل التنافس القائم حاليا بين الولايات المتحدة والصين على الأسواق والموارد يبدو اهتمام الطرفين منصبّا على البعد الاقتصادي، ولكن ماذا لو قررت الصين فجأة أن تنافس الولايات المتحدة على قيادة العالم سياسيا وأمنيا؟
لا بد من طرح هذا السؤال، خاصة مع الزيارة التي يقوم بها عطار التقارب الصيني هنري كيسنجر إلى بكين.
في بداية سبعينات القرن الماضي لعب هنري كيسنجر دورا رئيسا في فتح الحوار بين الولايات المتحدة والصين بعد عقود من العزلة، ممهدا للزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس نيكسون إلى بكين عام 1972.
في عهد دونالد ترامب شهدت العلاقات الصينية – الأميركية تدهورا كبيرا بسبب الحرب التجارية التي شنها ترامب ضد الصين ودعم الإدارة الأميركية لتايوان. واستمرت الخلافات في عهد جو بايدن رغم فترة وجيزة سادها التفاؤل.
فجأة يعود “الثعلب العجوز”، الذي أتم عامه المئة قبل شهرين، للظهور في بكين، وكان قد حذر من أن “حربا بين واشنطن وبكين يمكن أن تسقط الحضارة، إن لم تدمرها بالكامل”.
لا يبدو كيسنجر متشائما من الوصول إلى حل يرضي الطرفين، وهو يأمل أن "يتحلى الجانبان بالحكمة ويبذلان جهودهما لتحقيق نتائج إيجابية لتنمية العلاقات الثنائية وحماية السلام والاستقرار في العالم"
جميع الأطراف تدّعي أن زيارات كيسنجر المتكررة هي زيارات شخصية مبنية على علاقات صداقة تربطه بأطراف صينية تقدر له بجهوده التي بذلها في الماضي للتقريب بين بكين وواشنطن.
وكان كيسنجر مستشار الأمن القومي آنذاك قد سافر سراً إلى بكين في تموز/يوليو 1971 للتحضير لإقامة هذه العلاقات وتمهيد الطريق لزيارة الرئيس نيكسون.
وأدى التقارب بين واشنطن والصين التي كانت معزولة آنذاك إلى ازدهار الدولة الآسيوية التي تبوأت الآن المركز الثاني بعد الولايات المتحدة في حجم اقتصادها.
لن ننفي وجود علاقات صداقة، ولكن حتما الزيارة الأخيرة للثعلب العجوز التي تزامنت مع وجود المبعوث الأميركي الخاص للمناخ جون كيري في الصين وسبقتها زيارات قصيرة لعدد من كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية في الشهر الماضي، تخفي وراء الأكمة ما تخفيه.
ورغم أن الحكومة الصينية رفضت مؤخرا الجهود الأميركية للانخراط في اتصالات عسكرية على المستوى الرفيع، كما رفضت اجتماعا بين وزير الدفاع الصيني لي شانغو ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في حوار شانغريلا الأمني، في وقت سابق من هذا العام.
اللقاء الذي لم يحصل بين وزيري دفاع البلدين، تمّ ولكن بين كيسنجر ولي شانغو الذي يخضع لعقوبات أميركية.
ووفقا للرواية الصينية ينصح كيسنجر الطرفين بضرورة القضاء على سوء الفهم، والتعايش السلمي وتجنب المواجهة. ويرى كيسنجر أن “التاريخ أثبت مرارا وتكرارا أنه لا الولايات المتحدة ولا الصين تستطيعان معاملة الآخر كخصم”.
ومعروف أن العلاقات الصينية – الأميركية قد شهدت كثيرا من التوتر والاحتكاك في الفترة الماضية.
زيارة كيسنجر إلى الصين ليست رحلة للمتعة، كما تروّج جميع الأطراف، والدليل أن الخارجية الأميركية كانت على علم مسبق بها.
هناك تطورات عديدة تجري على أرض الواقع وتجبر الإدارة الأميركية على إعادة النظر في موقفها من الصين من بينها:
- خسارة النفوذ في جنوب شرق آسيا: يحدث هذا على مستوى العلاقات الاقتصادية والدفاع والنفوذ الدبلوماسي والثقافي. وبحسب دراسة جديدة لمعهد لوي الأسترالي للأبحاث تحت عنوان “مشهد القوة في آسيا: الصين والولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا”، تفقد الولايات المتحدة نفوذها لصالح لصين في المؤشرات الأربعة. رغم أن الكثير من دول المنطقة تشعر برعب واضح من تنامي التحركات العسكرية الصينية.
السبب الرئيسي لتحقيق الصين هذا النفوذ الاقتصادي الكبير هو تزايد شعور دول جنوب شرق آسيا بأنه لا خيار أمامها سوى الاصطفاف مع بكين. حتى ماليزيا التي يرتبط رئيس وزرائها أنور إبراهيم بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة، يتجه بشكل متزايد نحو بكين مبتعدا عن واشنطن، بفضل المساعدات والاستثمارات الصينية الكبيرة في بلاده.
في السنوات الخمس الماضية واصلت الصين تعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة من خلال العديد من الاتفاقيات التجارية الإقليمية، في مقابل تراجع واشنطن عن الاتفاقيات التجارية التي تضم دول جنوب شرق آسيا مثل اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ.
- الحرب الأوكرانية وما نجم عنها من تقارب قاربت بين روسيا والصين: بهذا الخصوص يرى كيسنجر ضرورة العمل على إيجاد مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا في أيّ حل للحرب الأوكرانية، “إذا كانت دول الغرب لا تريد أن تصبح موسكو موقعا أماميا للصين في أوروبا”.
ولا يعتقد كيسنجر أنّ بمقدور الولايات المتحدة “خلق عوامل تفرّق بين الصين وروسيا”، لكن “العوامل والظروف سيكون لها دورها الطبيعي”. بعد انتهاء العملية العسكرية الروسية، “سيكون على روسيا إعادة تقييم علاقاتها تجاه الاتحاد الأوروبي وسلوكها تجاه الناتو”.
ويرى كيسنجر أنه “ليس من الحكمة اتخاذ موقف معادٍ يقرّب الطرفين، أي روسيا والصين تجاه أوروبا”.
- مخاوف أوروبية من نشوب حرب باردة ثانية بين بكين وواشنطن: تشهد العواصم الأوروبية مناقشات كثيرة حول القيادة الأميركية للمعسكر الغربي وللنظام العالمي، وقبل عامين نشر مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي تقريره “التوجهات العالمية حتى 2040”. وتضمن التقرير 5 سيناريوهات للعالم بعد 17 عاما من الآن.
السيناريو الوحيد المفضل من بينها هو “نهضة الديمقراطيات”، وفيه تقود الولايات المتحدة عودة ما يعرف بـ”العالم الحر”. ولكن السيناريوهات الأربعة المتبقية تثير مخاوف الأوروبيين، وهي سيناريوهات يجب تجنبها ومنها: “عالم مضطرب” حيث تكون الصين دولة قائدة لكنها ليست مسيطرة عالميا. و”التعايش التنافسي” وفيه تتنافس الولايات المتحدة والصين على القيادة في عالم منقسم.
أما سيناريو “الصوامع المنفصلة” فيقدم عالما تنهار فيه العولمة وتظهر كتل اقتصادية وأمنية جديدة. وأخيرا “المأساة والتعبئة” وهو سيناريو تغيير ثوري من
القاع إلى القمة، في أعقاب مخاطر بيئية عالمية مدمرة.
هل يصلح عطار التقارب الصيني – الأميركي ما أفسده ترامب وأكمل عليه بايدن؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف عن الجواب، وتكشف عن فحوى المحادثات التي جرت وراء الأكمة في بكين
- التقارب السعودي – الإيراني: هناك أسئلة كبيرة ستطرح عن علاقات الشرق الأوسط وآسيا مع أوروبا والولايات المتحدة، وفق كيسنجر، الذي يرى أن اتفاق السعودية وإيران لإعادة العلاقات بين الجانبين بمنزلة “تغيير جوهري في الوضع الإستراتيجي للشرق الأوسط، وأن السعوديين يوازنون الآن أمنهم، من خلال لعب الولايات المتحدة ضد الصين”.
حرب باردة ثانية بين الولايات المتحدة والصين، ستكون أكثر خطورة من الأولى، التي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي. الآن، لدى الولايات المتحدة والصين موارد اقتصادية متشابهة، وهو ما لم يكن عليه الحال خلال الحرب الباردة الأولى. وأي حرب الآن بين واشنطن وبكين “يمكن أن تسقط الحضارة، إن لم تدمرها بالكامل”، وفق كيسنجر.
وهذا ما حذر منه أيضا وزير الخارجية الصيني وانغ يي، معتبرا أن بدء “حرب باردة جديدة” بين بلاده والولايات المتحدة سيكون بمثابة الكارثة بالنسبة إلى العالم بأسره.
الطريق مليء بالمطبات، وتصحيح العلاقات بين بكين وواشنطن يحتاج إلى “حكمة دبلوماسية على طريقة كيسنجر وشجاعة سياسية على طريقة نيكسون”، هذا ما قاله كبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي لكيسنجر في اللقاء المطول الذي جمع بينهما يوم الأربعاء الماضي في بكين.
ليس في الرسالة التي حمّلها وانغ للثعلب الأميركي أي ادعاء، وهي باختصار شديد أن “تطويق الصين واحتوائها أمران مستحيلان”.
سياسة الصين تجاه الولايات المتحدة لم تتغير ولا تزال مستمرة وتتبع المبادئ الأساسية التي اقترحها الرئيس الصيني شي جينبينغ: الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين.
خلال خمسين عاما، لم يكن الاحترام متبادلا، والتعايش السلمي كان هشا أكثر من هشاشة الخزف الصيني، والتعاون لتحقيق الربح كان لمصلحة الشركات الأميركية العملاقة، وعندما بدأ يميل إلى الجانب الصيني كان له ترامب بالمرصاد. ولم تتردد الإدارة الأميركية في نسف إنجاز العولمة ملوّحة بورقة حرب باردة جديدة.
رغم ذلك، لا يبدو كيسنجر متشائما من الوصول إلى حل يرضي الطرفين، وهو يأمل أن “يتحلى الجانبان بالحكمة ويبذلان جهودهما لتحقيق نتائج إيجابية لتنمية العلاقات الثنائية وحماية السلام والاستقرار في العالم”.
فهل يصلح عطار التقارب الصيني – الأميركي ما أفسده ترامب وأكمل عليه بايدن؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف عن الجواب، وتكشف عن فحوى المحادثات التي جرت وراء الأكمة في بكين.